القرار الذي أصدرته المحكمة العليا بإلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية في كينيا، سوف يظل علامة بارزة في أفريقيا، لأنه يؤسس لتغير كبير في المفاهيم التي سادت طويلا في القارة، بشأن عدم جدوى الاعتراض وعدم أهمية الاحتجاج، وأن النتيجة التي يتم إعلانها رسميا من الممكن أن تتغيّر قضائيا دون حاجة لسقوط ضحايا.
كينيا التي قطعت شوطا جيدا في المسار الديمقراطي، تحولت إلى محور اهتمام جهات كثيرة في العالم، فالانتخابات التي ألغتها المحكمة العليا الجمعة الماضي أفضت إلى احتجاجات كبيرة، كادت أن تقود إلى صدامات تذكر المواطنين والمراقبين بما حدث في الانتخابات التي سبقتها، عندما أعلن فوز أهورو كينياتا على منافسه رايلا أودينجا، وقتها سقط المئات من القتلى وتم تشريد مئات الآلاف، جراء الاقتتال الذي وقع بين أنصار الفريقين، ومع ذلك لم تتغير نتيجة الانتخابات التي اعترض عليها مرشح المعارضة أودينجا.
الوضع الآن اختلف، بعد إعلان المحكمة العليا إلغاء نتائج الانتخابات التي أجريت أوائل أغسطس الماضي والتوصية بإجراء انتخابات جديدة في غضون 60 يوما، والمغزى الحقيقي يكمن في إقرار المحكمة حدوث تجاوزات في نقل النتائج، وأن ثمة مخالفة وقعت وتمس الدستور، ما يعني أن المعارضة وجهت صفعة قوية للرئيس كينياتا الذي أكد اختلافه مع الحكم، لكنه أشار إلى احترامه.
الحكم الذي يُعد انتصارا نادرا للمعارضة، يمكن أن يفتح الباب لتداعيات نوعية، أهمها منح قوى المعارضة أملا في عدم الاستسلام، والإصرار على الالتزام بالقوانين يظل الطريق السليم، فالصدامات التي تلت الانتخابات الماضية قرّبت البلاد من مشارف حرب أهلية كان من الممكن أن تفتك بها، في ظل بيئة اجتماعية معقدة وتركيبة قبلية متشابكة.
كما أن الحكم أحرج العديد من منظمات المجتمع المدني المحلية والإقليمية والدولية، التي أشادت بالانتخابات ونزاهتها، ووصفتها في معظم الأدبيات التي ساقتها بـ”الشفافة”، وأوضح غالبيتها أن الرئيس كينياتا استحق الفوز عن جدارة، ولم تول اهتماما بالشكوك التي دارت بخصوص نتائج الفرز الإلكتروني وميلها لصالح كينياتا على حساب أودينجا، وهي الثغرة التي اعترفت بها المحكمة العليا ورجحت كفة إعادة الانتخابات.
وهو ما يعني أن التقارير التي تصدرها بعض المنظمات الحقوقية عن مسار الديمقراطية في كثير من الدول الأفريقية سوف تواجه بمزيد من الانتقادات، وأن عددا كبيرا منها لم يكن بعيدا عن التسييس، فعندما تتجاهل تقارير المجتمع المدني ما تردد حول وجود انتهاكات صارخة يجب الالتفات إلى أن هناك شيئا خطأ ورغبة قوية في تمهيد الطريق لعدم مغادرة الرئيس الحالي للسلطة.
الجانب السياسي في هذا المضمار جاء من رحم اتجاه الكثير من الدول الغربية نحو استمرار مسيرة كينياتا الذي أصبح عنوانا للقدرة على توفير الأمن والاستقرار في محيط جغرافي قلق، وحقق تطورا لافتا في معدلات النمو الاقتصادي، وصار البعض ينظر إلى تجربته على أنها نموذج يمكن أن تحتذي به دول كثيرة في القارة.
إعادة الانتخابات ضرب هذه الثقة في مقتل، وفضح زيف الشعارات التي تتشدق بها بعض الدوائر الغربية حيال دعم حكم كينياتا، باعتباره المثل الذي يجب تعميمه، فالانتصار الذي حققته المعارضة تتجاوز أصداؤه حدود كينيا، لأنه يقدم درسا نادرا في المعارضة الرشيدة، وأن أودينجا وحلفاءه استفادوا كثيرا من الخسائر المادية والبشرية التي منيت بها البلاد في الانتخابات قبل الماضية، ولم ينجر الرجل وأنصاره إلى سيناريو المواجهات الصعبة، وآثر التعامل مع الموقف بطريقة قانونية وحضارية، حتى حصل على حكم نادر في أفريقيا.
هذه المسألة تشي بضرورة تجنّب الصدام عند الاعتراض على نتائج أي انتخابات وهي كثيرة، فالدول الأفريقية لم تعد تتحمل اتساع نطاق عدم الاستقرار ومواصلة المواجهات المسلحة، التي كان يلجأ إليها الطرف الخاسر دائما، وطالما هناك دستور في البلاد يحظى باحترام الغالبية ويتم الاحتكام إلى القضاء سوف تتراجع المخاوف من ولوج احتجاجات المعارضة مرحلة العنف، وتبقى ضمن قواعد اللعبة الديمقراطية بمعناها السلمي والواسع.
المشكلة تكمن في فريق السلطة وليس الممانعة، لأنه يعتبر أن فوزا اُنتزع منه بعد أن حصل عليه بسهولة، ومطلوب التفكير في وضع آليات جديدة لاسترداده، دون لجوء إلى غش أو تزوير، أو حيل من قبيل السطو على الفرز الإلكتروني وتغيير مسار النتائج المرسلة من اللجان الفرعية إلى المركز، من خلال التحكم في النتيجة النهائية التي فتحت المجال لإعادة الانتخابات، وسببت جرحا غائرا للرئيس كينياتا، يصل إلى حد التشكيك في نجاحاته السياسية والاقتصادية السابقة.
الهزيمة المعنوية التي لحقت بالرئيس يمكن أن تؤدي إلى فضيحة سياسية مستقبلا، إذا أخفق في الانتصار على منافسه أودينجا، الذي يدخل الانتخابات متسلحا بهذا الحكم، بل من المتوقع أن يجلب له أنصارا جددا ويسحب من رصيد خصمه كينياتا، لذلك بدأ الأخير ترتيب أوراقه دفاعا عن حكمه، خاصة أن انتخابات الإعادة ستكون محل اهتمام من دول كثيرة، ناهيك عن منظمات المجتمع المدني التي أضحت على المحك ومطالبة بالدفاع عن سمعتها، ما يفرض عليها أن تظهر مساحة كبيرة من النزاهة، ولا تتهاون في كشف كل خروقات تحدث من قبل فريق كينياتا.
الصورة في مجملها تصب في صالح أودينجا، لا سيما إذا حصل على تأييد المعارضة بجميع أطيافها، ونجح في تغليب الأبعاد السياسية على المكوّنات العرقية، وابتعد عن الطائفية وتجاهل فكرة الانتقام من منافسه وركز على إدارة الحملة الانتخابية بطريقة ذكية، واستثمر التعاطف الواسع الذي جلبه له حكم المحكمة العليا، الذي منحه تفوقا معنويا من الواجب القبض عليه وتوظيفه سياسيا بعيدا عن أي اعتبارات انتقامية.
مرور الجولة المقبلة من الانتخابات الرئاسية بهدوء، يؤكد دلالتين غاية في الأهمية، الأولى أن هناك أملا لتحوّل تجربة الديمقراطية في أفريقيا (جنوب الصحراء) من الطابع الشكلي إلى المضمون الحقيقي، والثانية ترسيخ فكرة التغيير عبر الأدوات السلمية، وتقديم درس مهم ومعتبر لجميع القوى السياسية، في الحكم والمعارضة، بأن العنف والتضييق والتزوير وسائل غير مضمونة للصعود إلى السلطة.