مدنية "الجلاّب".....

Photo

رغم أنّ "المدنية" مفهوم قديم جدّا (منذ أرسطو)، ورغم تباين الأسس النظرية والأيديولوجية التي اعتمدها الفلاسفة وعلماء الاجتماع لتقديم مفهوم مُحدّد )وليس واحدا) لـ "المدنية"، فإننا نلاحظ في السنوات الأخيرة كيف أصبح المصطلح موضة، ليتحوّل شيئا فشيئا إلى علامة مُسجّلة تحتكرها فئة مخصوصة من السياسيين.

يُستعمل مصطلح "مدنية" أو "حداثي" كلّما اقتربت استحقاقات انتخابية، أو كلّما أراد فريق تأسيس شرعية لإقصاء فريق آخر من المشهد السياسي ... هي غطاء لممارسة الإقصاء وتقنين vote utile. حتى انّنا لم نعد ندري من المقصود بـ"المدنية" هل هي "الدولة" أم "الجماعة السياسية" أم "نمط عيش" أم "القانون" الذي يضمن الحريات الفردية والملكية الخاصة، أم المعاراضة ؟

لا أظنّ أنّ "المدنية" التي يقصدها الساسة في تونس هي تلك التي عرّفها أرسطو Aristote. ولا تلك التي قصدها هوبز Hobbes أو هيجل في "فلسفة القانون"... ولا أظنّ أنّ ما يعنيه ساستنا بـ "المدنية" ينطبق على ما ذهب إليه توكيفيل Tocqueville حين اعتبر أنّ المدنية تعني أولا :حرية الصحافة حيث أنّ هذه الأخيرة لا تُغيّر فقط القوانين بل تُغيّر المُعتقدات وتؤثّر على أشكال التفكير وتبني الوعي المواطني. كما تعني، وهذا الأهمّ، المساواة أمام الحق في الحياة الكريمة وتكافئ الفرص في الشغل والتعليم وحقّ الجميع في التشارك في نفس الفضاءات العمومية باختصار هي "حق العيش بنفس الطريقة والحصول على الثروة بنفس الوسائل"....

"المدنية" فلسفة تتمحور حول قيمتي "الحرية" و"العدالة"… هي أن يتمتّع الجميع بالماء الصالح للشراب وبالكهرباء وبنفس أنماط التعليم وبنفس الفرص في الحصول على شغل وأن يتشارك الجميع في موارد الثروات الوطنية وأن ينعم أبناء الدواخل بخيرات أوطانهم وألاّ تحتكر الأقلية الشواطئ والمسابح والمدارس الخاصة والدراسة بالخارج والعلاج بالمصحّات الراقية والأدوية المستوردة والهواء النقي والشوارع النظيفة… هي أن يمارس الجميع حرية التعبير دون قيد ولا شرط هي ألاّ يُسجن مُدوّن ولا ناشط حقوقي … هي ألاّ تصدر إملاءات تُحدّد خطبة الجمعة وصلاة العيد… هي ألاّ توجد وزارة إعلام ولا وزارة شؤون دينية هي أن تتمتع الجامعة بالإستقلالية وأن يتحرّر التعليم من الأجندات السياسية المؤدلجة … هي أن تُنفق الدولة على البحث العلمي أكثر مما تُنفقه على الأمن الموازي… هي أن يكون الأمن دون نقابات والجيش دون أجندات…. والديوانة دون سرّاق ومُهرّبين.

حين نلقي نظرة سريعة على واقعنا وممارسات وخطاب نخبنا السياسية نستنتج دون عناء أنّ "المدنية" في تونس "خلطة عجيبة" من هيجل الذي يجعل الدولة فوق المُجتمع، ومن ماركس الذي أسّس لدكتاتورية الطبقة العاملة (هيمنة اتحاد الشغل على مفاصل الدولة) ومن النيو-الليبرالية التي تعمل على تقليص دور الدولة في المجتمع (خوصصة المرافق العمومية.( "المدنية" هي السوق المفتوح والرأسمال المُتوحّش وتغوّل رجال المال والأعمال وهيمنة "الدولة البوليسة" وطغيان "دولة المجبى"…

"المدنية" متاع "الجلاّب" هي قطيع هجين من إعلام دون إيتيقا وحكومة دون رؤية وأحزاب دون مرجعيات وانتخابات دون رقيب وهيئات دستورية مُنشطرة وبرلمان أغلب نوّابه "تافهين"… ومنظومة تعليم مُتكلّسة ونُخب جاهلة وجامعات تُنتج اللاشيء وسياسات ثقافية تُكرّس التطبيع وتنشر ثقافة الشعوذة….

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات