بما أني فارس، أي في موضع المتفرج، فيمكنني الإدعاء أني أستطيع إنقاذ أية مؤسسة إعلام بناء على المهنية فقط، ومنه الإعلام العمومي، وتحويلها في عقد أهداف إلى مؤسسة رابحة وناجحة في مدة زمنية لا تتجاوز قانون مور: ثمانية عشر شهرا، إنما إعطني، وأنا متفرج فارس، مسؤولا يبرم معي عقد أهداف في هذا، قابلا للسجن والخطية في حالة العجز عن تحقيق الأهداف، هل ثمة موظف يقبل بهذا الشرط الشكسبيري في رواية تاجر البندقية ؟
هذا حديث خرافة، سواء تعلق الأمر بالإعلام العمومي أو الخاص، وعلى مدى تسعة وعشرين عاما من العمل الصحفي لم أعرف أبدا إعلاما خاصا بلا مطامع ربح سريع أو مصالح سياسية متضاربة مع الأهداف المهنية، أو النرجسية المرضية التي تجعل صاحب المؤسسة يعتقد أنه هو الذي اخترع الماء الساخن وتقنية الخبر الصحفي قبل أن تخلق وكالات الأنباء، وأنه هو الذي، بتوجيهاته السديدة سبق كبار الصحفيين في العالم.
كانوا مستعدين لاقتراف كل الحماقات من أجل الربح السريع المالي والسياسي وكان مشكلنا نحن، الصحفيون الشبان وقتها، هو أن نخترع إيقاعا مهنيا فيه ربح صاحب المؤسسة دون أن ننزل تحت سقف النذالة، حتى جاء جيل آخر، مستعد لتحويل لعق الأحذية إلى جنس صحفي جديد، إنما عموما، هذا هو القطاع الخاص، هو ماله، وهو حر فيه، وحين تتكسر أمواله بالفشل والديون والكمبيالات، نحن فقط نخسر أجر شهر أو شهرين، أما هو، فقد يخسر كل شيء، وقد يجد نفسه هاربا بين تونس والجزائر نحو المنفى.
لنأت إلى القطاع العام، حدثت أحلام مهنية زائفة بعد الثورة، ثم عاد سريعا إلى الشيء الوحيد الذي تعرفه حليمة في عادتها القديمة، حيث يتساءل الصحفيون عن جدوى ومعنى الاجتهاد والتميز المهني في مواجهة الآلة الجبارة للإدارة العمومية.
ومرة، أثناء بطولة أهالي بن قردان في مواجهة الإجرام، سألت زميلا له خمسة عشر عاما من الأقدمية، مرشح لرئاسة التحرير سيقرأ موجزا إخباريا، عن خبر قتل اثنين من المنحرفين، فقال لي بوثوق صادم: "في بالي، أما تركته للنشرة القادمة"، على أساس ثقافة الستينات حين لم يكن من مصدر إعلام للناس سوى الإذاعة العمومية، أوكي، رغم الصدمة، قلت له: ستملح الخبر مع القديد حتى لا يفسد أو لا تبثه الإذاعات الأخرى ؟ فأصبح عدوا لي.
يوجد صحفيون في الإعلام العمومي في تونس، بين وكالة الأنباء، التلفزة والإذاعة، والصحيفتين، أكثر مما يوجد في مؤسسة بي بي سي البريطانية ذات المجد المهني العالمي، لكن يوجد معهم من الموظفين في الإعلام العمومي خمسة أضعاف أية مؤسسة إعلامية في أية دولة. أعرف أغلب الزملاء الصحفيين في القطاع العمومي، وأعتقد أن نسبة لا تزيد عن عشرين بالمائة منها لا يمكن إصلاحها أصلا، البقية أيا كانت أعمارهم، يريدون العمل الحق ومستعدون لأية صيغة تعيدهم إلى مهنتهم الأصلية وإلى قادة رأي مهنيين يشاركونهم ذلك الحلم المهني الجميل،
وما دمنا في الإعلام العمومي، فإن شريط الأنباء، آه من شريط الأنباء، الشيء الوحيد الذي بقي يذكرنا بأن قناتنا الوطنية هي وطنية حقا، يسير نحو الموت البطيء ويخلف لنا مع كل نشرة آلاما نفسية، محمولا على محفة العمل السطحي، غريبا عن واقع الوطن، عن أبجديات المبادرة والعمل الصحفي، محشوا بمراسلات ثقيلة وركيكة، سطحية، وهذا ليس لعيب في الزملاء، وأنا أزعم أني أعرفهم، بل في غياب إرداة حقيقية في قيادة وصناعة نشرة أخبار صناعية وطنية حقيقية، فكل ما هنالك، هي مشاريع مؤقتة للتسيير الإداري.
وباستثناء الأخبار، لا أشاهد في قناتينا: بحكم السن الصور المتحركة، وبحكم الاختصاص البرامج الوثائقية، وبحكم الثقافة والأخلاق المسلسلات التركية أو السورية أو المصرية، ثم إني أكره الإعادة، إلا إذا تعلق الأمر بأشياء ذات قيمة عالية، وهي منعدمة في القناتين !!!