منذ كانت تونس مهدا "للثورات العربية" لم تعد و لا يمكن أن تبقى ذلك البلد الصغير الذي يغض طرفه عن صراعات الاقليم و المنطقة في معركة الترتيب الدولي الجديد للعالم بعد حقبتي سايكس بيكو و يالطا .
تونس تحولت "بثورتها" الى "المخبر" الذي كانت ستُجرب فيه وصفة الترتيب الجديد لمنطقتنا العربية و بذلك تحولت الى ساحة الصراع العلني و الضمني بين أنصار هذا الترتيب و خصومه .و منذ ذلك الوقت سيكون من قصر النظر ان نُحلل و نُفكر لتونس في شانها السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و الديبلوماسي دون فهم و اعتبار للصراعات الكونية .
انتهت تونس الصغيرة المحايدة الباردة الصامتة بديبلوماسية الحياد البورقيبي الميالة باعتدال الى المعسكر الغربي لتصبح تونس منصة من جملة منصات قرية كونية و منطقة عربية و اسلامية في حراك ترتيب جديد .
الطبقة السياسية التونسية بكل أطيافها بلا استثناء لم تمارس السياسة منذ "الحدث الثوري التونسي العابر للحدود" الا ضمن الاصطفافات و الصراع الدولي في المنطقة و هو أمر طبيعي لا اختيار فيه فقد انتهى عصر "المحلية" و "القُطرية" في سنوات تعولم الافكار و الخيارات و الاجندات .
اختارت النهضة الحزب الاكبر في الطبقة السياسية الجديدة الاعتماد على أجندة "الديمقراطيين الامريكان" من عرابي الدمقرطة المحسوبة و اقحام الاسلام السياسي و المراهنة على الاتراك و القطريين في ترويضه لملء الفراغ الاستراتيجي في المنطقة بعد ترهل النظم القديمة لمواجهة ملئه من ايران و روسيا و الصين .
و اختارت أجنحة القديمة "القابلة للجديد" اعداد شروط "الترتيب الديمقراطي الامريكي" حتى لا يكون على حسابها فقبلته و نسقت في نفس الوقت مع القوى العربية الخائفة منه مثل الامارات و السعودية و توجيه رسائل الابتزاز للامريكان بفرنسا و بمغازلة الروس و الايرانيين و حلف المقاومة لاجبار الترتيب الامريكي على اختيار "التوافق" بين هذا القديم المتجدد و الاسلام السياسي .
اتجه اليسار و القوميون و خصوصا بعد الحريق السوري الى القرب أكثر من الحلف الايراني و السوري و المقاومة و رغم تبني هذا اليسار و القوميين لفكرة الثورة التونسية فلم يروا مانعا من الالتقاء مع القديمة المتجددة المدعومة خليجيا و فرنسيا كتكتيك لاضعاف الخيار الامريكي للدمقرطة بالاسلام السياسي فقط .
تقسيم المواقف "التونسية المدولنة" الى هذه السرديات الثلاثة لا يمنع من الاقرار بوجود تعقيدات و تفصيلات تحتاج التدقيق و لكن هذا التبسيط يبقى سليما من الناحية المنهجية العامة .
جريان مياه كثيرة في نهر الخيارات الامريكية و التحولات المتسارعة في الارض السورية و اليمنية و انتصارات الحلف الروسي الايراني السوري و ظهيره حزب الله سوف يربك هذا التقسيم الثلاثي و يهزه هزا بشكل يثبت مرة اخرى أن المشهد التونسي السياسي المتحول في تحالفاته و تقاطعاته هو مشهد مدولن بامتياز.
فلنقل اذن ان نجاح أو فشل أي طرف سياسي تونسي في معركة الصراع الداخلي لن يكون الا بقدر ما ينجح أو يفشل هذا الطرف في قراءة المشهد العربي العام و التحولات الحزبية دليل على ما نقول .
ما يهم التونسيين أن لا حلول اقتصادية و اجتماعية للبلاد دون تموقع جيد في هذا المشهد العام . الخضوع لابتزازات غرب راسمالي استعماري و صناديقه دون استفادة من الانفتاح على القوى المنتصرة الصاعدة دليل على قراءة مغلوطة للمشهد الدولي عن قصد او بدونه .