قرأت قبل قليل مقالا جيّدا لأحد الكتّاب الصحفيين حول زيارة الباجي إلى سوسة. وأقام الكاتب مقاله على ثنائيّة سواحليّة/خوانجيّة. ونبّه إلى أنّ مستقبل السبسي السياسي مرتبط إلى حدّ كبير بطريقة تعاطيه مع هذين المكوّنين.
وأيّا كانت وجهة النظر التي يجتهد المقال في إبرازها والاستدلال عليها، فإنّ ما شدَّني هو طبيعة هذين المكوّنين: سواحلية /خوانجيّة.
فالسواحليّة تعبيرة جهويّة ( عصبيّة جهويّة بالمعنى الخلدوني) أقام عليها بورقيبة حكمه في 1956، وجعله أساسا لما سمّي بالدولة الوطنيّة. ولئن تقرّر أنّ الحكم/المُلك - كما يشير صاحب المقدّمة - إنَّما يكون في نصيب العصبيّة الأقوى، فإن العصبيات تختلف فمنها العصبية ( أي الرابطة) الجهوية والعصبية النقابية والعصبيّة السياسيّة ( الأحزاب).
وحين ننظر في تاريخ الدولة التي أسسها بورقيبة نلاحظ أنّٰ عصبيتها جهويّة ( سواحليّة) وهي رابطة تنتمي إلى ما قبل الدولة الحديثة. وهو ما يطرح عدّة أسئلة عن "حداثة الدولة" التونسيّة.
وأمّٰا الخوانجيّة فهم تعبيرة سياسيّة وطنيّة ( أي تغطّي كامل البلاد ) حديثة، تسمّى في أدبيات الفكر السياسي "الإسلام السياسي".
السبسي البِلْدِي ، و"البِلْديّة" تعبيرة جهويّة أيضا، لكنّها تعبيرة مدنيّة تبدو متطوّرة على تعبيرة "السواحليّة" الريفيّة. ولهذا السبب كان بورقيبة معقّدا من "البلدية " طول حياته، ولذلك صاهرهم ليتشبّه بهم لتسهل مخاتلتهم، وقد تسنّى له ركوب بعضهم وإقصاء البعض الآخر. والسواحليّة هنا ليست حالة تغطّي كل منطقة الساحل وإنّما هي مجموعة مصالح ونفوذ تجعل من الجهة والرابطة الجهويّة وسيلة لتحقيقها، والجهوية حالة تونسية كالقبيلة في ليبيا واليمن. وبروز الساحل كان لما اجتمع فيه من شروط القوة المالية والاقتصادية ومن ثم السياسية.
الدولة التي أمضت ثلاثة عقود في محاربة الإسلام السياسي ( عشرية بورقيبة + عشريّتين نوفمبريّتين)، هي في حقيقة الأمر كانت تحارب "الحداثة السياسيّة الممكنة"، وتمنع تحديث الأساس الذي تقوم عليه الدولة وتصرّ على أن تقوم الدولة على هوية جهويّة تنتمي إلى ما زمن ما قبل الدولة، وهذا ما منع الدولة إلى يوم الناس هذا من أن تكون مدنيّة وديمقراطيّة.
وهذا ما يفسّر ، إلى حدّ بعيد، ما عشناه من تراجع كبير عمّا طرحه الانتفاض المواطني الاجتماعي مع الثورة، كما يفسّر زيارة الباجي التي تمثّل ارتدادا إلى "ما قبل الدولة" وإلى دغدغة "الهويات القاتلة" (أي الجهويّة) بغاية إيقاظها لتكون معولا لهدم ما بقي من القليل الذي بناه مسار التأسيسي. فمن هو المطالَب بإثبات مدنيّته والحال على ما هو عليه؟!!!
البعد الحديث، والبعد الوطني، في تعبيرة الإسلام السياسي يفسّران، ولو جزئيًّا، ما كان من تقارب بين الإسلاميين وبقيّة الطيف السياسي (منه بعض تعبيرات اليسار)، في بداية الثمانينيات، حول مطلب الحرية والديمقراطيٰة والإصلاح السياسي ( لقاء حرمل والغنوشي) . كما يفسّر حركة 18 أكتوبر)الشابي، القوميون، حزب العمال ،النهضة، …). وهذه الأحزاب كلّها وطنيّة ) أي ليست جهويّة) وتعبّر عن مرحلة متقدّمة على الدولة وأساسها الجهوي ( العصبية الساحلية، أو البِلْديّة).
فكأنّ الأساس الوطني كان الجامع الموضوعي لطبقة سياسيّة تواجه "دولة جهويّة" تسمّي نفسها "دولة وطنيّة". ولكن غلبة الإيديولوجيا وضعف الوعي الاجتماعي والعجز عن فهم أساس الدولة الاجتماعي فجّر كثيرا من المعارك الجانبيّة في الطبقة السياسية الجديدة. وصارت هذه المعارك ،مع الوقت، هي المعارك الرئيسيّة. وهذا ما منع التأسيس وبناء دولة التعاقد المواطنيّة الاجتماعيّة على أنقاذ دولة بورقيبة الجهويّة الغنائميّة.
حرب الدولة على خصومها السياسيين من أحزاب وطنيّة على مدى ستين عاما ولا سيما حرب الثلاثة عقود على الإسلام السياسي كانت حربا على حداثة سياسيّة تسعى إلى أن تكون أساسا للدولة الوطنية بديلا عن الدولة الجهويّة.
الحديث عن السواحليّة والخوانجيّة هو في حقيقته حديث عن زمنين متجاورين : زمن ما قبل سياسي ( الجهويّة) وزمن سياسي )الدولة)، حتّى السيستام لا يخرج عن هذه الجهويّة المقيتة، وحتّى لوبيات المال والأعمال أيضا، فلم تؤثّر فيها العولمة الرأسماليّة فبقيت وفيّة للبراديڤم الجهوي والفئوي.
وتكون زيارة السبسي، في معناها العميق، إحياء للدولة الجهويّة. وهو أساس لم يعد صالحا، بل لم يعد قابلا للإحياء، والأزمة الماليّة والاقتصاديّة وأزمة الحكم اللتان تهدّدان وجود الدولة واستمرارها تشيران بوضوح إلى أنّ افق القديم العائد لا يتجاوز الدولة الجهويّة. وأنّ جانب من أزمة منظومة الحكم هو التجاذب بين تقاليد الدولة الجهويّة الموجودة ( بِلْديّة كانت او ساحليّة) وبين مقوِّمات الدولة الوطنية المنشودة.