بؤساء وليسوا أوصياء

Photo

مضى على إندلاع هبّة الشّعب التلقائيّة العفويّة من أجل الحرّية والكرامة قرابة 7 سنوات ولم يتغيّر المشهد السياسي والإجتماعي والإقتصادي والإعلامي والثّقافي والتّربوي إلى أحسن حال ولم نتحسّس أي بوادر لإنفراج الوضع وإنشراح المواطن المتثاقل بهمومه وديونه المتهالك بواقعه وآلامه.

لم يتحقّق ما كان يصبوا إليه الشّعب الكريم وتعقّدت الوضعيّة فمن أزمة إلى اخرى ,وقد خاب من حمل آمالا وبنى أحلاما . إنّ الثّورة كانت حلما لأجيال متعاقبة ومناضلين شرفاء صادقين وشهداء الوطن ضحّوا وقضوا من أجله حلموا جميعا وناضلوا من أجل تونس جميلة حرّة مزدهرة متقدّمة تقطع مع نظام حكم الفرد الواحد وقيادة الحزب الواحد وتقديس من يقود وتحقير من يقاد. فلماذا لم تحصل القفزة النوعيّة بعد كلّ التراكمات الكميّة من أحداث وتجارب ومحاولات وأفكار ورؤى وحلول ...؟

بل تتالت الكبوات والأزمات والآفات حتّى ملّ المواطن العادي السياسة وكره ما يدور في الكواليس والعلن من حديث وضجيج السياسيين . إنّ الداء يكمن في نوعيّة الطبقة السياسيّة وطبيعة الأحزاب والإعلام الفاسد التّي تصدّرت المشهد فكلها علل وداء للوطن وفيها يكمن الخلل والخور . الملاحظ لمنحني بيان آدائهم بإعتبار عنصر الزّمن يلحظ إهتزازات ومنحدرات ومنخفضات كنتيجة لكثرة صياحهم وخلافاتهم وتصادماتهم وهرجهم وذلك بتنوّع اطيافهم والوانهم الحزبيّة وأذواقهم الفكريّة.

لقد طغت الحسابات والمصالح الحزبيّة وطمعهم للقيادة وحكم الشّعب على مصلحة الوطن وتعرّت خلفياتهم الفكريّة ولبوسهم الإيديولوجي أمام النّاضرين والنّاقدين المتبصّرين وما عادت تنطلي وعودهم وخطاباتهم فلقد سقطت الأقنعة ولقد سنحت فرصة الإنفلات والفوضى للإعلاميين الفاسدين ليتصدّروا المشهد الإعلامي ويأبّدوا الوضع ببرامجهم الفاسدة ورعوناتهم. *

في البداية : نادى طليعة الشّعب من مثقفين ومفكرين وحقوقيين وطلبة وخيرة شبابنا الواعي المثقّف بمجلس تأسيسي كبداية لإنطلاقة حقيقيّة موفّقة لإعادة كتابة دستور جديد يقطع مع إخلالات الزمن الماضي من قضم وتلف وتحايل على نصوص الدستور القديم فبحيث يكون الجديد الضامن لحياة جديدة وآفاق أرحب . لكن ما كل ما يتمنّى الشّعب يدركه فقد جرت أهواء السياسيين وتنطعا تهم بآحلام وآمال المواطنين الواهمين.

لقد أساء هوّاة السياسة ومراهقيها وثلّة من المخادعين الطامعين الإنتهازيين إلى المشهد السياسي ولم تغتنم الطبقة السياسية المتناحرة الفرصة التاريخيّة لتحقيق ذواتهم اوّلا لكي يبرزوا كقّوة إقتراح وحلول وبناء وتوجيه لسفينة الوطن إلى برّ الآمان والإزدهار وثانيا لم يبذلوا جهدا ولم يجتهدوا لإسعاد الشعب ومن وثق بهم وانتخبهم لنصرته وجلب المنفعة ودفع الضرر عن عامّتهم وخاصّتهم.

لقد كثر الجدال والخصام وغاب الحوار والإنسجام وطفت وبرزت على السطح خلافات وتصادم للمفاهيم فليس بغريب فقصور المفاهيم هو القاسم المشترك بين كل الشّعوب المتخلّفة . لقد أصبح المجلس التأسيسي ساحة صراع وجدال بين مختلف القوى المتصارعة المتناكرة المتناحرة ,ولقد برز بالواضح المكشوف عمق الإختلاف الإيديولوجي الذّي ميّز الحياة الجامعيّة من قبل واستمرّ على مرّ السّنين لم يتغيّر ولم يتجمّل.

لم يكن المجلس التأسيسي سورا وقلعة للحوار والإستئناس بالأفكار والأراء والتآلف بين بني الوطن الواحد فلم يحمي المجتمع من التعانف بل بالعكس إحتدّ الصراع والعنف اللّفظي والمعنوي والمادّي وإنتهى بعد ذلك بإغتيالات سياسيّة زادت الوضع قتامة وسوءا. فمن كان يحمل في طيّاته بذورا لعنف وإقصاء مستحيل أن يبني حوارا ويقيم عدلا ,فلباس الديمقراطيّة وقيّمها ليس على مقاس هؤلاء ومبادئها دخيلة على عقلهم الباطن. *

وبعد : إستمرّ المشهد بمرارته وعلّته وهنّاته إلى ان إنتهى المجلس التاسيسي من كتابة دستور تكلّف باهضا على الشعب وبقي قوانين بين دفّة كتاب إذ لم نلمس تغييرات ملموسة حقيقيّة في حياة البشر . إعتقد الشعب أنّه تنفّس الصعداء وإستراح من العناء ,ولكن تعاقبت بعد ذلك حكومات متتالية كانت السّمة البارزة لجلّهم إقتسام المناصب وتوزيعها بين الأحزاب فلم تكن الكفاءة والجدارة عنوانا لتحمّل المسؤوليّة والقيادة بل الإنتماء الحزبي هو المحدّد ولذلك لم تهتدي حكومات توزيع المناصب على الأحزاب إلى حلول واقعيّة ورؤية إستراتيجيّة وبرامج هادفة ناجعة لمجابهة التحديّات والمصاعب والعراقيل بل زاد التّداين والإرتهان إلى توجيهات صندوق النّقد الدّولي ومع كثرة الإضرابات والإعتصامات في عديد القطاعات والمرافق الحيويّة العموميّة تعطّل الإنتاج وساء الحال إنها الفوضى العارمة والإنفلات الجامح.

فيا لها من قساوات أليس لدينا كفاءات ورجال شرفاء ثقات يضحّون من أجل الوطن يخرجونه من عتمة المصير وسوء التّدبير أم تغلّب المشهد الحزبي واللّبوس الإيديولوجي . لا نسمع إلا كلاما وتطمينات ووعود وتصادمات بين قوى متصارعة وإنتقادات فم ثمّ إلا لافظ زارع للوهم.

طبقة سياسيّة هاوية إمتطت صهوة ثورة لم تكتمل وإغتنمت زمن الإنفلات والفوضى لتبرز للعيان كوصيّ على الشّعب عشقها للسلطة والحكم اعمى بصيرتها فما هم بالأوصياء ولا الأسوياء بل هم بؤساء السياسة وأدعيائها ضجر الشّعب من آدائهم وملّ وتحاشى ظهورهم . مع الأداء السيئ الرديء لطبقة سياسيّة مراهقة إلا قلّة من شرفاء ومخلصي الوطن بقيت ثابتة على المبادئ تحاول بين الفينة والأخرى لعلها تتمكّن من إنقاذ ما يمكن إنقاذه حبا وعشقا للوطن ,وجد إعلام فاسد بكل وسائله وقنواته فرصة سانحة لبثّ برامج ساقطة تكرّم السافلين تربّي الجيل على الإنحلال والضياع والميوعة والرداءة بفنّ هابط وذوق فاسد .

ثلّة من عبّاد الدينار والدولار والشهوات اصحاب الشاشات والقنوات انخرطوا واعين او غير واعين في تربية إعلاميّة خائنة تنحر الحياء والعفاف وتغرّب المجتمع وتسلخه من هويّته وتمزّق الفضيلة فلا عزّة ولا كرامة ولا شهامة ولا حماس تنشأ جيلا خاضعا تابعا مائعا عبيد يشتاقون لمن يمسك بخطامهم. " إنّنا في أيّام خدّاعات يصدّق فها الكاذب ويؤتمن فيها الخائن " صدق رسول الله صل اللهم عليه وآله زمان يقود الهوى الحقّ فماذا بعد هذا من ضلال وضياع. *

لماذا لا نستفيد من دروس التاريخ : إذا لم نهتدي إلى ثورة ثقافيّة تغيّر المفاهيم تزرع القيّم تنتج الأفكار البنّاءة والحلول الموضوعيّة تربّي الأذواق تصنع الأفهام والإنسان تعالج الأذهان تنزع الأوهام فلن نغيّر واقعنا إلى الأفضل ونجتاز العقبات . الثورة الثقافيّة أمل وحلم اصيل للإزدهار والرقي بفكر راقي وفن راقي وتعليم راقي من أجل إنسان سويّ وناقد بصير وزمن تعلو فيه القيّم والخير والحقّ والجمال .

كيف نقطع مع الفساد والإستبداد وكثير من البشر يحمل بذورها وبراعمها في ذواتها ,فكيف يستقيم الظلّ والعود أعوج ؟ ما بني على باطل باطل ولن يستمر وسينقطع وينفصل وعلينا ان نتعلّم من الشعوب التي قادت ثورة وإنتصرت في النهاية وحقّقت اهداف رسمتها بمفكّريها ومثقفيها التنويريين المخلصين الصادقين الأحرار .

فلا ممارسة بدون فكر ولا فكر بلا ثقافة ولا ثقافة بدون هويّة وأصالة . علينا إذا أردنا أن نغيّر واقعنا ونتقدّم ان نعيد إنتاج زماننا وواقعنا من جديد ونتجاوز بحكمة وفقه منازلات كبوات وخيبات ومرارة تجارب مضت وولّت وبقيت آثارها وآلامها . على مخلصي وصادقي وأحرار الوطن من مثقفين ومفكرين في مختلف القطاعات تحمّل جسامة المسؤوليّة من أجل ثورة ثقافيّة إنتاج الأفكار والبرامج والحلول فبدونها لا صلاح ولا فلاح وسيظلّ واقعنا يراوح مكانه بعلله وهناته ونقائصه ومفاسده.

أخيرا لمن يعتقدون انهم نخبة الوطن عليهم ان يستحيوا ويخجلوا فهم جزء من الأزمة وليسوا الحل فلا بودار ولا مؤشرات لتوفيق ونجاح "العالم لا يحتاج إلى النصائح بل القدوة فالحمقى لا يكفّون عن الكلام " و"إذا لم يكن عون من الله للفتى فاوّل ما يجني عليه إجتهاده " نسأل الله التّوفيق والسّداد وحماية ونصرة الوطن .

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات