أكد ما يسمى بمسار ثورات الرّبيع أنّ أزمة البرجوازيّة الكولونياليّة هي أزمة سياسيّة، مهما أخذت من أشكال ومظاهر إيديولوجيّة واقتصاديّة، تتجدّد من خلالها رغم ما يكتنفها في عمق تبعيّتها البنيويّة بالغرب الاستعماري والنّيوليبر إلي من أزمات.
وما كان ذلك التّجدّد ليحصل وتلك السّيطرة لتستمرّ لولا وجود الشّعوب المفقرة في أسر التّبعيّة السّياسيّة للبرجوازيّة. لذلك نرى أنّ فكر النّظريّة في الممارسة السّياسيّة يصرّ على ضرورة حلّ الأزمة على مستوى التّناقض السّياسي بالثّورة على الأنظمة السّياسيّة - مثلما فعلت بجرأة وجدارة بعض أقطار الوطن العربي - و ممارسة الوجود الشّعبي السّياسي المستقل، والمؤسّس للحريّة والكرامة والعدالة والدّولة الوطنيّة الدّيمقراطيّة الحديثة، حيث السّيادة للشّعب والمواطنة الكاملة للجميع بين النّساء والرّجال وبين المكوّنات المجتمعيّة، مهما كانت اختلافاتها اللّغويّة والدّينيّة والإثنيّة والمذهبيّة.
أيّ تغليب الحلّ الوطني الدّيمقراطي العلماني على الحلّ الطائفي الفاشي. “بوضوح أقول، فالوضوح هو الحقيقة، من لا ينتصر للدّيمقراطيّة ضدّ الفاشيّة، للحريّة ضدّ الإرهاب، للعقل والحبّ والخيال وللجمال ضدّ العدميّة وكلّ ظلاميّة، في لبنان الحرب الأهليّة، وفي كلّ بلد من عالمنا العربي، وعلى امتداد أرض الإنسان، من لا ينتصر للثّورة في كلّ آن، مثقّف مزيّف، وثقافته مخادعة مرائية. علاقة الفكر بالواقع هي علاقة تفاعل وترابط جدّ معقد، وهي علاقة ليست ذاتيّة فرديّة بل هي علاقة تاريخيّة اجتماعيّة بنيويّة.
بفاعليّة في حركة التّفاوت التّطوّري لحركة الصّراع السّياسي الذي تخوضه قوى الثّورة والتّغيير التي أسقطت الأنظمة، وأعلنت موت الاستبداد ونهاية مرحلة الطّغيان العصبي الطّائفي الفاشي.
كما قوّضت المشهد السّياسي السّائد بكلّ قواه اليمينيّة، والإسلام الطّائفي السّياسي، واليسار الجامد المتحجّر. لقد نقضت الثّورة كلّ البنى السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والفكريّة القهريّة والاستبداديّة التي مارست الذلّ والتّحقير والتّفقير، كما وعت خطورة الإيديولوجيّات الدّينيّة الطّائفيّة السّياسيّة، وفضحت إفلاس مشاريع البرجوازيّة الفاشيّة في النّهضة والتّنمية والتّحديث، وعجزها عن تأسيس حدّ أدنى من المفهوم النّظري للدّولة البرجوازيّة الكلاسيكيّة.
وكان شعار الثّوّار الحريّة والكرامة والعدالة والدّولة الدّيمقراطيّة الحديثة، أي دولة الحقّ والقانون والمؤسّسات والمواطنة والحرّيّات المدنيّة والسّياسيّة واحترام حقوق الإنسان. الثّورة بهذا المعنى وفي كلّ الثّورات التي عرفها التّاريخ الإنساني هي المستقبل الزّاهر و الأمل والحلم بواقع سياسي ديمقراطي تحترم فيه الحرّيّة والكرامة الإنسانيّة، بعيدا عن أيّة إطلاقيّه طائفيّة فاشيّة مهما كانت أقنعتها الدّينيّة و الإثنيّة والمذهبيّة.
وفي سياق هذه الثّورات التي مارست فيها الشّعوب حقّها السّياسي في الوجود السّياسي كقوّة سياسيّة مستقلّة، ضاربة عرض الحائط بكلّ أنواع التّمثيل السّياسي الإيديولوجي الذي كانت تمارسه قوى المشهد السّياسي للأنظمة السّياسيّة الاستبداديّة، وكنست الرّؤى السّلبيّة السّياسيّة والثّقافيّة، التّراثيّة والحديثة والمعاصرة التي حكمت على الشّعوب بالطّاعة والعبوديّة، وبالتّبخيس والتّحقير، كأوباش وجرذان وأهل الشرّ والرّعاع... قلت في سياق هذه الثّورات كممارسات سياسيّة للصّراع السّياسي ليس من السّهل أن تسقط دفعة واحدة القوى المحليّة المضادّة للثّورة، خاصّة وأنّها مسنودة ومدعومة ماديّا وسياسيّا وإعلاميّا من الدّول الغربيّة والرّجعيّة الخليجيّة التي تخاف من حركة التّاريخوالتطور والتّغيير، لذلك هي مستعدّة لتعطيل وإفشال هذه الثّورات، لكن هيهات فهل يعطّل التّاريخ؟
تتفكك نُظُمٌ من الفكر والاقتصاد والسّياسة يصعب عليها الموت دون عنف، تتصدّى لجديد ينهض في حشرجة الحاضر، وتقاوم في أشكال تتجدّد بتجدّد ضرورة انقراضها، تنعقد بين عناصرها المتنافرة تحالفات هي فيها على موعد الموت. عندما سقطت الأنظمة السّياسيّة الاستبداديّة انفجر أساسها الاقتصادي السّياسي والاجتماعي والثّقافي، فصعدت إلى السّطح كلّ أشكال التّفتيت والتّجزيء السّياسي التي حالت دون تشكّل النّسيج المجتمعي بما يسمح بتأسيس مفهوم سيادة الدّولة الوطنيّة الحديثة.
ومن ضمن ذلك التّجزيء السّياسي للبعد الوطني الدّيمقراطي الحديث لمفهوم الوطن، نجد القبليّة والعشائريّة والدّينيّة والمذهبيّة والطّائفيّة، كانقسامات اجتماعيّة عموديّة لا يخلو منها أيّ مجتمع من المجتمعات في العالم، لكن في مجتمعاتنا تستغلّ إيديولوجيا لتتحوّل إلى علاقات سياسيّة تشكّل الأساس الإيديولوجي السّياسي للبرجوازيّات الاستبداديّة الحاكمة. فاليوم نلاحظ أنّ كلّ هذا الأساس الذي يتمظهر دينيّا واثنيّا ومذهبيّا هو طائفيّ سياسيّ عفن، ينتج الخوف والإرهاب بين أبناء الشّعب الواحد، خاصّة الإسلام الطّائفي، لا يمكن أن يسقط بين عشيّة وضحاها، إذ يحاول مقاومة الثّورة والتّغيير سياسيّا واقتصاديّا وإعلاميّا بأشكال إيديولوجيّة مختلفة، خاصّة تسلّحه بالبداهة الدّينيّة مسلم / كافر التي تخوّله فاعليّة سياسيّة كبيرة في خوض الصّراع السّياسي، من خلال الظّهور كإيديولوجيّة دينيّة، وإخفاء حقيقة أنّه إيديولوجيّة سياسيّة لفئات برجوازيّة، حتّى يتسنّى له سحب البساط من تحت أقدام الفئات المسلّمة الشعبيّة المقهورة الثّائرة ضدّ التّبعيّة السّياسيّة الطّبقيّة لبرجوازيّات الأنظمة السّياسيّة السّاقطة، والتي حرمت شعوبها من حقّ الوجود السّياسي المستقلّ والمكثّف في المعنى السّياسي للشّعب الذي هو مصدر السّيادة والتّشريع والسّلطة.
هكذا نفهم أن مفهوم الدّولة الإسلاميّة الذي ترفع شعاره قوى الإسلام الطّائفي السّياسي لا علاقة لها بمعتقد الشّعب المقهور المسلم، أي لا علاقة لهذه القوى بالإيديولوجيّة الدّينية، بل هي ممارسة سياسيّة تستهدف فرض التّمثيل السّياسي بأقنعة دينيّة، كالحاكميّة والشّريعة والخوف من الله، على الفئات الشّعبيّة التي دفعتها ظروفها الاجتماعيّة الصّعبة، وأوضاعها الاقتصاديّة المزرية، وإلغاء وجودها السّياسي إلى الثّورة والتّغيير. “وما تهدف إليه هذه الطّبقة البرجوازيّة: أن تظلّ هذه الطّبقات الكادحة بلا قوّة سياسيّة، من غير أن تعي ذلك أي من غير أن تكتشف بوعيها انعدام وجودها السّياسي...
يولد عند تلك الطّبقات المفقرة الوهم بأنّ لها قوّة سياسيّة. واقع الصّراع السّياسي السّائد اليوم في بلدان الثّورات العربيّة يجعل من ضرورة تاسيس خلفيّة معرفيّة وأساسا نظريّا وسياسيّا لفهم وتحليل ونقض ونقد الممارسات السّياسيّة للقوى المضادّة للثّورة، وهي تحاول إعادة إنتاج السّيطرة والهيمنة السّياسيّة، من خلال السّطو الإيديولوجي للإسلام الطّائفي السّياسي على المعتقد الدّيني في ممارسة سياسيّة للصّراع السّياسي، تحاول فيه البرجوازيّة إعادة إنتاج الشّكل السّياسي لعلاقات السّيطرة. أي تعطيل الوجود السّياسي الصّريح للشّعوب التي كسرت إطار التّبعيّة السّياسيّة التي فرضتها الأنظمة الاستبداديّة إلى درجة نشر التصحّر السّياسي، وإلغاء أيّة ممارسة سياسيّة نقيضة لسيطرتها السّياسيّة.
وهي تحاول الآن القفز من خلال الإسلام الطّائفي السّياسي على حقيقة الرّبيع العربي كثورات سياسيّة ضدّ أوضاع اقتصاديّة واجتماعيّة وثقافيّة. بمعنى ضدّ أوضاع ماديّة كانت فيها الممارسة الإيديولوجيّة للبرجوازيّة الكولونياليّة تغيب الطّابع السّياسي لمصالحها المادّيّة وأفكارها الإيديولوجيّة، وتحاول ما أمكن شلّ حركة التّفاوت التّطوّري للصّراع السّياسي الاجتماعي بجعل تلك الممارسة الإيديولوجيّة تظهر مستقلة عن وحل الصّراع السّياسي.
واليوم نرى قوى الإسلام الطّائفي السّياسي كيف تتصدّى لمهمّة تغييب الاقتصادي الاجتماعي بإعطاء الصّراع بعدا نمطيّا دينيّا، مؤمنون وبشكل دقيق السنة وأكثر دقّة الفرقة السّياسيّة النّمطيّة السنيّة النّاجية / وكفار المتمثّلون في نظرهم في أغلب الشّعب المسلم والمسيحي... ليتسنّى لها – الفرقة النّمطيّة الإسلاميّة الطائفيّة السياسيّة - إلغاء السّياسي، من خلال التنكّر للوجود السّياسي للشّعب كقوّة سياسيّة مستقلّة ونقيضة في ممارستها السّياسيّة للطبقة البرجوازيّة بكلّ أقنعتها الطّائفيّة السّياسيّة، مهما أخذت من أشكال دينيّة و اثنيّة ومذهبيّة.
هذه القوى الطّائفيّة الإسلاميّة في ممارستها السّياسيّة ليست مسلمة دينيّا كما تريد أن توهم بتضليل إيديولوجي الفئات الاجتماعيّة المسلمة الكادحة لتسلب منها حقّها في التّنظيم السّياسي المستقل، وتأسرها في تبعيّة سياسيّة طبقيّة للبرجوازيّة الكولونيالية. إنّها تلعب لعبتها الطّائفيّة السياسية الفاشيّة بخلق نوع من التّماهي بينها وبين دين المسلمين فتجعل من نفسها كيانا اجتماعيا متجانسا متناغما جوهريّا، ومعطى بشكل كامل وشامل ونهائي عبر المتخيّل اللاّتاريخي لتاريخ الشّعوب المسلمة، وهي بذلك تريد أن تسيد وعيا إيديولوجيا بأنّها التطابق الاجتماعي التّاريخي الدّيني المفقود بين المجتمع والدّولة، وأنّها البديل الموضوعي للأنظمة السّياسية التي أسقطتها الشّعوب بمعزل عنها - قوى الإسلام الطّائفي السّياسي - حيث ندّدت وحرمت الخروج على الحاكم.
وبناء على هذه الممارسة الإيديولوجيّة السّياسية للصّراع السياسي تعلن وصايتها السّياسية في حقّ الشّعب بإلغاء وجوده السّياسي الذي دفع من أجله آلاف من الشّهداء، وتجهر بوقاحة إيديولوجيّة مقنعة دينيّا بتحريم سيادة الشّعب وحقّه في تقرير مساره ومصيره ومستقبله بفرض التّمثيل السّياسي الطبقي المسمى “الحاكميّة لله” على الشّعب الكادح المقهور. “على هذا الأساس ينقلب التّناقض الاجتماعي التناحري تناقضا روحانيّا بين الدّين والإلحاد، بين تأكيد الله ونفيه، بين الامتلاء الإيمان، وهذا الامتلاء هو التّعبير الإيديولوجي البرجوازي عن احتكار البرجوازيّة التّمثيل السّياسي احتكارا مطلقا، والفراغ المادّي، وهذا الفراغ هو التّعبير الإيديولوجي البرجوازي عن خوف البرجوازيّة من كسر احتكارها هذا، ومن خروج الطّبقات الكادحة على الفضاء الطّائفي الممتلئ بالنّظام السّياسي البرجوازي.
هكذا تدخل قوى الإسلام الطّائفي السّياسي في تناقض مأزقي مع روح الثّورات وآفاقها المستقبليّة، الوطنيّة والدّيمقراطية الحديثة. والنّتيجة أنّها تعبّر عن عجز الدّولة الإسلاميّة الطائفيّة في توحيد ودمقرطة المجتمع، وتأسيس الدّولة الحديثة القائمة على القيم والمبادئ الإنسانيّة الكونيّة، وعلى رأسها الحريّة والكرامة والعدالة والمساواة في المواطنة بين كلّ مكوّنات الشّعب الواحد، وبين الرّجال والنّساء. إنّها لا تفعل في ممارستها السّياسيّة أكثر من تفتيت لحمة النّسيج المجتمعي، ونشر ثقافة التّفاضل والتّمييز العنصري، وتفكيك الوحدة الوطنية، وبالتالي تعطيل أو إفشال تحقيق أهداف الثورات. وسجن الشّعوب في متخيل السردية الدينية السراطية لما يسمى تاريخ المسلمين النّموذجي والذّهبي، وحنينها ليس إلى إحياء الماضي، بل الفناء الصّوفي في هوامات الخلافة.
وهي تنجح في ذلك حين تغيب السّياسي بطمس وجود النّاس المادي الاقتصادي السّياسي. “ومتى كان الأساس المادّي للنظام الإيديولوجي إيديولوجيا؟ ومتى كانت الإيديولوجية تفسر بالإيديولوجيّة، كالفكر بالفكر، إلاّ في عالم الغيب والتغييب، أي في عالم مثالي لا ينتظم في بنائه الداخلي المفارق والمستقل إلا في هدف تغييب أساسه المادي، وبفعل هذا التغييب نفسه؟ أو ليست آلية التغييب هذه هي آليّة تحرك الإيديولوجية في وظيفتها التفقيرية، خدمة لمصالح الفئة المسيطرة؟
تطرف قوى الإسلام الطائفي السياسي فيكمن في تناقضها المأزقي مع ثورات الربيع العربي، حيث لا يمكن أن تكون الطائفية الإسلامية السياسية هي الإجابة الموضوعية والتاريخية لتطلعات وطموحات وأحلام الشعوب التي أسقطت بدمائها التبعية السياسية، ودشنت وجودها السياسي باكتساح الساحات، وخلق المجال العام والرغبة في المشاركة في الشأن المدني والسياسي. كما أنها تواقة إلى الحرية والكرامة والعدالة والوجود السياسي الذي يفتح الطريق لتأسيس الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، الضامنة لوحدة النسيج المجتمعي والوطني، بعيدا عن التفتيت والتجزيء السياسي لسيادة البلد، و ضمان قوة ومناعة الوطن في وجه القوى الخارجية التي تحقق تنمية التطور في أوطانها على حساب تنمية التخلف والقهر والاستبداد والطغيان في وطننا.
إن جدلية الانفتاح الكوني للسيرورة التاريخية الاجتماعية لثورات الربيع تتجاوز كضرورة تاريخية سياسية الأفق التناقضي المأزقي لقوى الإسلام الطائفي السياسي. صحيح بأن الممارسة الاجتماعية الإنسانية تجعلنا نقول بنوع من الحس التاريخي بأن الحل الوطني الديمقراطي العلماني الحديث يحتاج إلى مسيرة معقدة ومركبة من التضحيات الجسام، في وجه حل التفتيت و التجزيء الطائفي الفاشي الدموي الذي ينتصب في أفق التناقض المأزقي الطائفي السياسي، المدعوم من قبل مثلث الخراب والدمار والفاشية.
ونجاح الثورات يتوقف على إفراز قوى الثورة البديل من خلال ممارستها السياسية لوجودها السياسي المستقل، بعيدا عن سجال الاستقطاب السياسي الشكلي الذي تنهك وتستنزف فيه بعض القوى العلمانية اليمينية واليسارية طاقات وقدرات وعطاءات شعوبها.