النهضة وتهمة الإرهاب

Photo

بصفتي ناشطا سياسيا، يمكنني أني "نطفّي الضوء" (أغضّ الطّرف) على موجة الاتهامات الموجهة للنهضة بدعم الإرهاب، سواء في سياق قضية "تسفير الشباب إلى سوريا" أو في سياق انخراط عدد من قياداتها البارزة في "الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين" المصنّف أخيرا من قبل عدد من الدول العربية منظمة إرهابية، وذلك حتى أكسب نقاطا على حساب هذا الخصم السياسي الكبير.

ولكن دعوني أعترف بأن هذه سياسة "بو دورو"، وسياسة دنيئة حتّى، خصوصا إذا كان الخصم بريئا من هذه التهمة الخطيرة، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته، وإدانة النهضة إدانة رسمية ثابتة لم تحصل إلى حدّ الآن. ولذا فأنا أيضا كناشط سياسي (أي كمهتم بكل ما يجري في الساحة السياسية الوطنية) لا يمكنني أن أتجاهل هذه المسألة.

وعدم تجاهلها يحتمل أمرين: فإما أن أنخرط في حملة الإدانة والتشفي في النهضة، وإما أن أشهد في القضية بما أعلم. قد يلومني بعض المراهقين السياسيين من خصوم النهضة على بذل الوقت والجهد في تمحيص هذا الأمر، وقد يعتبرونه من باب السذاجة السياسية وافتقاد الدهاء والمكر السياسي الذي يقضي بانتهاز أي فرصة لإضعاف الخصوم وإحراجهم ولم لا حتى التخلص منهم رمزيا، بالمساهمة في إفقار رصيد شعبيتهم ومشروعيتهم السياسية والقانونية. شخصيا، لا أرضى بأن أخوض غير معارك الشرف.

وفي نظري هذه القضية قضية شائكة وملتبسة، حتى وإن قال من تعلقت بهم التهمة، أي النهضويون، بأنه لا لبس في براءتهم، أو قال خصومهم بأنه لا لبس في تورطهم في جريمة الإرهاب.

لا يمكن لأي نهضاوي أن ينكر أن أئمة نهضاويين أو قريبين من النهضة قد تحمّسوا في بداية الثورة السورية لهذه الثورة، وهذا أمر أشاركهم فيه، أي المرحلة السلمية من الثورة على الحكم المستبد في سوريا، وكيف لا وأنا وعموم التونسيين متحمسون عندئذ للثورة التي وقعت في بلادهم ولكل ثورة سلمية تقع في البلاد العربية، سواء في مصر أو اليمن أو سوريا أو غيرها. إذ لا يشفع لحاكم أن يسوم شعبه سوء عذاب الدكتاتورية وخنق الحريات أن يصطف في معسكر "الممانعة".

لكن تحمّس الأئمة النهضاويين والقريبين من النهضة والأئمة السلفيين الجهاديين للقتال المسلح ضد بشار وجيشه والمستند إلى حجة أن بشار قد مرّ إلى القمع المفرط للثوار وإلى التصفية المميتة لهم، هو ما يمثل بداية قيام اللبس في هذه القضية. لا شك أن الإخوان المسلمين في سوريا قد شكّلوا فرقا للقتال ضد نظام بشار المستبد ولا شك أنهم قد قاتلوه بضرواة في جبهات القتال جنبا إلى جنب مع مقاتلين آخرين أكثر تشددا، قبل أن تظهر الخلافات بين المقاتلين المعارضين وقبل أن تصبح سوريا مسرحا لتدخل مقاتلين من حوالي مائة جنسية وتتشوه الثورة السورية وتغرق في وحل التحالف مع الإرهاب إن طوعا أو كرها.

في الأثناء، بدأ الإرهاب يضرب في تونس وبدأ الإسلاميون الذين هم في الحكم يدركون أن عليهم مواجهة الإرهابيين (أنصار الشريعة وغيرهم من الفصائل السلفية المقاتلة) وتصنيفهم رسميا إرهابيين. وكان ذلك من طرف رئيس الحكومة علي العريض (الثلاثاء 27 أوت 2013). ومن ذلك الحين، خرجت النهضة من حالة التردّد التي مرّت بها في كيفية التعامل مع السلفيين المقاتلين، بعد أن كانت تظن أنها ستسوعبهم وتستدمجهم في دورة العمل الثقافي والدعوي السلمي، وتخلت عن موقفها الساذج الذي كان يعتبر السلفيين رافدا من روافد الثورة في تونس وفي سوريا وليبيا، وأنهم من "أبنائنا ويذكروننا بشبابنا" وأنهم "يبشرون بثقافة جديدة"، كما انزلق في التعبير عن ذلك الشيخ راشد الغنوشي، الذي وجد نفسه مرة أخرى في التسلل ومسبوقا بمرحلة في "فهم خصوصيات الحالة أو المرحلة" (حدث ذلك في سياق ما عرف بـ"تحرير المبادرة" للقواعد النهضوية، ثم مع بن علي (الثقة الكبيرة فيه، بعد الله) وتكرر مع السلفيين الجهاديين (أبناؤه الذين يذكرونه بشبابه) ويستمر الآن مع أحزاب سليلة للتجمع أو هي مجرد شركات سياسية تتعلق بها شبهات فساد، وموازية جميعا لخط الثورة أو مضادة لها).

عمليا، ليس هنالك ما يؤكد إلى حد الآن أن النهضة قد سهّلت لوجستيا سفر آلاف الشباب للقتال في سوريا حتى وإن وفّر بعض رموزها الدعويين وأتباعها نوعا من الغطاء الإيديولوجي والخطاب التعبوي من على منابر الخطابة المسجدية لصالح نصرة المقاتلين الإسلاميين ضد نظام بشار الأسد في سوريا، من خلال مضمون الدعاء المرفوع ومصطلح الجهاد المستخدم في هذا السياق.

وأستبعد شخصيا أن تكون النهضة قد لعبت دورا ماديا في تسفير الشباب إلى سوريا، فلو كان هذا الأمر موجودا حقا لما بقي محلّ غموض وتشكك إلى حد الآن. فهل يعقل أن يسفّر آلاف الشباب إلى سوريا مرورا بتركيا بطريقة منظمة من قبل الإسلاميين التونسيين ولا ينتبه إلى ذلك أيا من مصالح وعناصر الأمن التونسي ولا أيا من الإداريين أو رجال الدولة المشاركين لهم في الحكم زمن الترويكا ولا الشركاء الأوروبييين والأمريكان والمخابرات الروسية والإيرانية والجزائرية؟

خلاصة هذه المرحلة من التحليل إذن أنه إذا كانت هنالك مسؤولية للنهضة في قتال الشباب التونسي في سوريا فهي مسؤولية سياسية وأخلاقية، ناتجة عن سوء تقدير للأمور بدافع الحماس الزائد ضد النظام الدكتاتوري في سوريا ونصرة أدبية لإخوانهم المقاتلين ضده دفاعا عن أنفسهم وأعراضهم كما يعتقدون.

الجزء الثاني من القضية يتعلق بانتماء بعض قادة الحركة الإسلامية التونسية إلى الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين الذي يقوده الشيخ يوسف القرضاوي من قطر، والذي قرّر الرباعي (الرياض-القاهرة- أبوة ظبي-المنامة) تصنيفه تنظيما إرهابيا. نعم صحيح أن قادة كبار للنهضة مثل الأستاذ عبد المجيد النجار، والأستاذ نور الدين الخادمي القريب من النهضة، ومن قبلهما الأستاذ راشد الغنوشي كانوا، ولا زال بعضهم، من أعضاء هذا الاتحاد وقادته في بلدانهم، فضلا عن انتماء بعضهم للمجلس الأوروبي للعلماء أو للإفتاء والبحوث الذي كان الأستاذ النجار نائبا لرئيسه، وهو المجلس الذي صُنّف أيضا منظمة إرهابية من قبل تلك العواصم الأربع. وهما منظمتان محسوباتان حقا على التنظيم الدولي للإخوان المسلمين.

وصحيح أن رئيس الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين يوسف القرضاوي كان من بين أكبر المحرّضين على مقاتلة نظام بشار الأسد دفعا للعنف المميت الذي كان يمارسه على معارضيه كما يقول القرضاوي والإخوان عموما. بل نُسب إلى القرضاوي حتى طلبه الصريح للدعم الأمريكي للثورة السورية المقاتلة. وقد زار القرضاوي تونس واستقبله فيها قادة النهضة في مطلع ماي 2012. فهل أن كل هذه المعطيات كافية لحمل تهمة الإرهاب على قادة النهضة المنتمين، أو الذين انتموا سابقا للمنظمتين الإخوانيتين الدوليتين؟

ما قلناه عن الجانب الأول من القضية، يمكن أن نقوله هنا أيضا، وهو أن النهضة وقادتها لهم علاقة أدبية باتحاد العلماء المسلمين وبمجلس البحث والإفتاء الأوروبي، ولكن هذا لا يمكن أن يكون حجة لنسبة أعمال مادية إليهم على علاقة بالإرهاب. وقد كان النهضويون يشاطرون هذين التنظيمين الإخوانيين وجهة نظرهما في الثورة السورية إلى حين اتخاذ القرار بتصنيف "أنصار الشريعة" تنظيما إرهابيا وإلى حين إعلانهم الرسمي من موقع الحكم وسلطة القرار الحرب على الإرهاب في صيغته السلفية المتشددة والمقاتلة. منذ ذلك الحين، التحمت جهود النهضويين من مواقعهم المختلفة بجهود الدولة التونسية وبجهود كل التونسيين المعتدلين من أجل التصدي للإرهاب وسكتوا تماما عن مناصرة ما كانوا يعتبرونه جهادا ضد نظام بشار البعثي المستبد والمجرم.

إضافة لكل ما سبق، يجب ألا يغيب عن البال إعلان حزب حركة النهضة عن تحوّله منذ مؤتمره العاشر (ماي 2016) إلى حزب وطني مدني تونسي بالكامل، وفصله بين الدعوي (بكل ما فيه من حمولة انفعالية جهادية كانت أو غيرها، وثقافية إخوانية أو غيرها) عن السياسي، وتخصص راشد الغنوشي وإخوانه في الحزب في العمل السياسي البحت.

ما نستنتجه في القضية التي بين أيدينا، أن موقف النهضة من القتال في سوريا ضد نظام بشار الأسد لم يكن موقفا سكونيا، بل مرّ بثلاث مراحل:


- مرحلة أولى: مرحلة الدعم الضمني من خلال الخطاب المنبري، ونقول الضمني لأننا لم نطلع على تصريح سياسي رسمي عبر بيان سياسي مثلا، يفيد هذا الدعم.

- مرحلة التبرّأ الكامل من تنظيم أنصار الشريعة وتصنيفه رسميا عبر جهاز الدولة تنظيما إرهابيا، والانخراط مع جملة التونسيين في الدولة وفي المجتمع المدني في مكافحة الإرهاب ومحاصرته. نذكر مثلا، فضلا عن قيادة هذه الحرب من قبل حكومة علي العريض ميدانيا، تبني مركز دراسة الإسلام والديمقراطية برئاسة رضوان المصمودي، الذي انضم مؤخرا، ومن جديد، إلى حركة النهضة، لمشروع "اليد في اليد" لمكافحة التطرف والإرهاب مدنيا وثقافيا ومسجديا.

- مرحلة تمايز الحزب (النهضة) عن الخط الدعوي والثقافي بكل شحناته الإيديولوجية، والتخصص الكامل في الشأن السياسي (نائبة رئيس المجلس التأسيسي محرزية العبيدي مثلا تؤدي زيارة لمعمل جعّة، بمبرّر أنه رافد من روافد الاقتصاد التونسي، والقيادي في النهضة لطفي زيتون يدعو إلى عدم التدخل في الحرية الجنسية للمثليين، والسكوت عن تقنين رئيس الجمهورية للزطلة...الخ).

وفي الأخير، بماذا نحكم في هذه القضية؟

نحكم بأن تقوم حركة النهضة بنقد ذاتي لسوء تقديرها للأمور في علاقتها بالظاهرة السلفية المتطرفة، وجهلها بحقيقة الجهل المقدّس، رغم تواتر الدراسات العلمية والتقارير الدولية حوله منذ أمد غير قصير، وقلة خبرتها في هذا المجال، في بداية الانتقال الديمقراطي وحكم الترويكا، وأن تصدر بيانا تؤكد فيه من جديد وبشكل لا رجعة فيه رفضها القاطع للعنف كطريقة في فرض اختيارات سياسية أو إيديولوجية وتبنيها الكامل للنهج السلمي الديمقراطي في تغيير أوضاع المجتمعات حتى وإن كان تغييرا ثوريا.

إذا ما قامت النهضة بهذا النقد الذاتي وجددت التزامها الكامل بنهج التغيير السلمي الديمقراطي، مع استمرار براءتها الأصلية من تهمة الإرهاب، بعدم ثبوته ضدها، فإنها تكون بذلك قد عززت مكانتها كحزب وطني مدني من حقه، ومن واجبه أن يسهم في إدارة الشأن العام والمشاركة فيه كلما منحها الشعب الأهلية القانونية الديمقراطية لذلك عبر الآليات المنصوص عليها دستوريا.

هذه قضية، حكمنا فيها على هذا النحو، ولكن توجد قضايا أخرى تواجه النهضة وسيحكم فيها لها أو عليها الشعب، ومن أبرزها مدى حفاظها على نهج الثورة ومبادئ الدستور ومدى انحيازها للمسألة الاجتماعية التي هي لبّ الثورة التونسية وليس مجرد إتقان فن لعبة صناديق الانتخابات حتى وإن كانت خاوية من أي استحقاقات اجتماعية حقيقية.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات