جذر المعنى لكشف حجب المبنى

Photo

نعتقد أنّنا نعيش زمنا حقيقيا ونسلك الطريق الصحيح القويم ,ولكن الظلال والأوهام والخيال تحيط بنا تمحي تطمس تميّزنا ووحدة ذاتنا ,تضعف وجودنا تزيل طفل المعنى في ذواتنا وتنسخ براءتنا وبساطتنا وتشوّه فطرتنا.

فما ثمّ إلا الصوّر المنعكسة وقلب الحقائق والخطرات والرؤى , "فهدير الباطل يملأ الأجواء وأضواؤه تبهر العين فتجليها وتسلبها رشدها", أعضائنا الحسيّة منصهرة بالواقع محاطة بعالم الحسّ والكثائف حيث المثيرات والإيحاءات وشتّى التنبيهات تثير تحفّز وتحدّد كيفية تصرفنا وانفعالاتنا ومواقفنا ومزاجنا ونزوعنا في حياتنا العلائقيّة.

فهل تفيد الاوهام النظريّة التّي تلقيناها من مركز الإبصار الحسيّ حيث الإحساسات الأوليّة دون إدراك المعنى للتدبّر والفهم والتعقّل؟ وكيف الخلاص من وهم الحسّ الذي يجب أن نزيحه من أذهاننا لتغيير أنفسنا ومجتمعنا لأجل الصلاح والإصلاح؟

إذا كانت القلوب مغلّفة معتكفة في دنيا اللأحاسيس الشعوريّة والانفعالات المزاجيّة والنّفس قابعة في عالم الحسّ وغبشه ,فكيف تفلح وعين البصر مفتوحة وعين البصيرة مغلقة؟ *"النّاس نيام فإذا ماتوا إنتبهوا " : يستقبل الإنسان من عالمه الحسيّ الإشارات والعبارات والتنبيهات ويحوّلها إلى مسارات فسير بالنواصي والأقدام ويترسّخ فعله بالتكرار والعادة ويمضي إلى حين بأهوائه وأوهامه وأحلامه . فما ثمّ إلاّ الظلال والخيال والوهم. "

الوجود كله خيالات ورؤى وأحلاما يشبه ما يتراءى للنائم في نومه ",فويل لمن اتخذ الدنيا وسيلة وغاية وظنّ أنّه خالد هكذا توهّم الخائب الفاشل . الدّنيا عالم حسيّ إسقاطاته سقطات لمن أبحر بلا بصيرة ولا إيمان وبدون يقين ليفتح الموت عين وجوده حينها يبقى بلا حراك فيغلق باب دنياه وتنمحي اللّذات والشهوات "وحالة الفناء ليست إلا يقظة من الغفلة التي يعيشها الإنسان العادي وتستغرقه يقظة من عالم الصور التي تتراءى له فيظنها حقيقة ,ليستيقظ ليكتشف أنها أوهاما" ولكن حينئذ "ولات حين مناص .

فكيف يأمن الإنسان الدّنيا وبقائه فيها إلى زوال وفناء ؟ مسكين هذا الإنسان إن انحرف عن فطرته وعاش دنياه بدنياه غافلا ساه عن دين القيّمة فاتر العزيمة خائر الهمّة حائدا عن مقصده وغايته خادما للدّنيا مسرعا متهافتا متلهّفا للنيل من حظوظها محاطا بها فهي في قلبه ويقابلها قلبا وقالبا متربّصا لنيل فرصة الظفر بلذائذها وملذّاتها وتحقيق كل أمانيه وأحلامه والموت اقرب إليه من كل ذلك فقوسها موتور تصيب من صوّبت رميتها إليه فلا تخطئه ولا تمهله لترديه ميّتا لأن الروح وديعة وقد سلبت و"لكل أجل كتاب".

للدّنيا جمال ولها اشواق وأمنيات في النّفوس الحالمة زينتها تأسر وظاهرها يسحر الألباب تجتذب عشّاقها ,باطنها معنى ولها أوحال وأشواك ومطبّات قعرها سحيق وما نجا منها إلا السابح المحمود "من أتى الله بقلب سليم " ,مكتشفا زيفها حذرا من لدغاتها وإنزلاقاتها لعلمه أنّ الحياة الدّنيا متاع الغرور فجدّف بالأعمال الصالحة وقد غرق فيها الكثير من البشر سحبتهم بدلالها واطمئنوا لها ثم داستهم بسطوتها.

إذ لا آمان مع الدّنيا ساحرة ألباب العلماء سمّها زعاف حبّها خسارة وتجارتها إلى بوار. النّفس مذهولة والقلب في محرابها معتكفا غير عابئ بإشارات الغيب وتنبيهاته وتحذيراته ,فالدّنيا إحاطة البشر وإطارهم المعرفي والسلوكي ولا مفر . لا تكتشف اسرارها وتعلم افانينها وتحذر بوائقها وسمومها إلا بيقظة العقل والرّوح وتعاليم الغيب . فمتى يتحقّق الإنسان بباطن الوجود ويتجاوز ظاهره ؟

*المحكّ والبلاء :

ما الجدوى والفائدة من خلق المخلوقات وإيجادها ؟ماذا يريد الخالق سبحانه وتعالى من مخلوقاته ؟ أن يناقشه المخلوق أو أن يعصي أوامره ولا ينتهي لنهيه ,أن يعانده في قضائه وقدره أو أن يعبده بهواه أو أن يلحد في اسمائه وآياته ؟ المخلوق نسبي والخالق مطلق والمخلوق مقيّد بزمان محاط بمكان والخالق خلاف ذلك لا يقيّده زمان ولا مكان "ليس كمثله شيء".

الخالق سبغ على مخلوقاته جميعا نعما ظاهرة وباطنة ,أنعم عليهم بنعمة الإيجاد والإمداد ,فكيف لهذا المخلوق الضعيف العاجز الحقير أن يتمرّد وان لا يعرف حدود نفسه وأن لا يقف دون حقّه ؟ حياتنا الآنيّة ليست إلاّ نتيجة لجذر معنى الوجود الأسبق الأوّلي في عالم الأنوار في حضرة ربّنا حين حصل ابتلاء للذّوات العاقلة حيال الأمر الإلهي حين خلق الله آدم فكان الزّمن الفارق المصيري لتحديد مستقبلها بإرادتها واختيارها ,إذ أنّ "أحداث الكون مرسومة وموضوعة كاختبارات للإيمان في النّفس وليكون المخلوق شهيدا على نفسه ".

لقد استجابت اصناف المخلوقات العاقلة أمام الابتلاء الإلهي حسب بنيتها وكينونتها بحسب أعيانها الثّابتة أمام الامتحان ومحكّ البلاء.

1-الملائكة :

نقاش مع سلامة النيّة والقصد فسلمت فطرتها وحفظ رأسمالها المعنوي وبقيت في عالم الأنوار في حضرة مولاها لم تفارقه لثبات اصلها وغلبة لطيفتها وتبرّأت من حولها وقوّتها بقولها " سبحانك لا علم لنا إلّا ما علّمتنا إنّك انت العليم الحكيم ".وأطاعت أمر مولاها .

2-إبليس اللّعين :

عصى امر ربّه مصرّا معاندا متكبّرا فأساء الدب في حضرة مولاه وغلبت عليه شقوته تعزّز بخلقة النار واستهان محتقرا خلقة الصلصال وفارق عالم الأنوار أبديّا بلا رجعة وأنغمس وذاب في عالم الظلمات ومات معنى ليصبح راس الغواية وإمام الأشقياء.

3-آدم :

لم يطيع امر ربّه ونسي ولم يجد له عزما في كبح شهوته ونيل رغبته والتحرّز من عدوّه إبليس ولكن عصى أمر ربّه ولم يتمالك نفسه وسمع لغواية عدوّه إبليس اللّعين ,فقد حجبت الصّورة جوهر المعنى وغلبت اللّحظات والخطرات فخاب ولكن ندم وتاب ونزل إلى مدارك التعب والشّقاء بإرادته.

ورث بني آدم تراث ابيهم مفارقين عالم الأنوار إلى حين فقد نال منهم عدوّهم إبليس حظّه سابحين في بحر الدّنيا في عالم الحجب والكثائف لا يخرجهم منها إلاّ العمل الصالح والتمسّك بالمعاني وترك الصوّر والمباني فلا عبرة بها لأنّ التشبّث بالقشور والظّاهر والزّيف دون كنه المعنى وباطن الأشياء أصل البلاء . "والنّفس البشريّة في كل دقيقة من حياتها هي في اختبار للإيمان باللّه ". وعليه على بني آدم الاستقبال الجيّد للإشارات الربانيّة والعبارات الإلهيّة والعمل الجدّي بالجوارح والأشباح والأرواح لأجل الصلاح والفلاح وإلاّ فالخيبة والانحراف عن الصّراط المستقيم والسّير في سبل إبليس وجنوده والتشبّه به في اقواله وأفعاله والوقوع في قيده العقلي .

على كافة البشر أن ينتبهوا ويستوعبوا الدّرس القاسي وان يعيدوا إنتاج ذواتهم وصقلها وتهذيبها على ضوء قبس النّور الإلهي حتّى لا يبلون بفراق آخر مرّ فقد خسروا جولة البقاء في عالم الأنوار في حضرة ربّهم فلا يخسروا فرصة التّدارك والرجوع إلى عالم الحقيقة والحقّ والجمال والسّعادة الأبديّة . "

ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ". وما الانتباه واليقظة إلاّ سبيل للوعي بالقواطع والموانع الحاجبة للحقيقة المانعة للتجلّي والارتقاء .

*النّفوس الإبليسيّة :

ترى كشيخها العاطل إبليس اللّعين صورة الشيء دون إدراك معناه قد حبسهم مركز إسقاطهم البصري الحسيّ فحصلت لهم إحساسات أوليّة للرؤية دون إدراك وفهم معنى الشيء لأنهم افتقدوا تنبيه وإعلام مركز الإدراك المعنوي برعونتهم وغرورهم وأنانيتهم وعجبهم بأنفسهم فتاهوا وضاعوا وما أصابوا الحقيقة.

نفوس تحبّذ الحريّة المطلقة ولا تتقيّد بالأمر الإلهي وبالتّراتيب الربانيّة ولا تطيق عالم الأنوار لإنحباس نفوسها في عالم ذاتها فهي لها حجاب ومنها الظلمات ولو تدبّرت لعلمت أنّ التجليات الإلهيّة هي من إرادة الله عزّ وجلّ آيات في الآفاق وفي أنفسنا أرادها بقدرته وحكمته ولطفه وإبداعه وحظ المخلوق في كل هذا في مدار التعلّقات من حيث سعيه وكدحه وطلب العون والهداية والصلاح والتوفيق بإذن الله.

*الاغتراب والاستلاب:

"الإنسان ظاهره صورته وباطنه روحه المدبّرة لصورته " فهو قلب في قالب وروح في جسد وليس قالب مادّة منفعل فهل يعقل أن تنفعل المادّة بدون روح ؟ هناك داخل الجسم الحيّ الرّوح الإلهيّة نفخة الرّوح المقدّسة ,فالروح قد انسربت في القالب الجثماني فكرّمته وصعدت بمكانته إلى اعلى درجات التّكريم ,ولكن هل حافظ الإنسان على التّكريم وخلقه في أحسن تقويم أم هل ردّ باختياره وإرادته إلى أسفل السّافلين؟

يسعى الإنسان في دنياه فيتواصل مع وسطه بأحاسيسه الشعوريّة وأفعاله وغالبا ما يطغى عالم الحسّ على وجدانه وتفكيره وتبهره وتسحره الصور والمباني ويغترّ بظاهر الأشياء دون كنه بواطنها وأسرارها فيضيع تائها مغرورا بائسا ويغمط الحقّ . يا خسارة من اجتذبته الدّنيا وقيّدته بزخارفها وبهجتها ورياشها ونسي حقيقتها وباطنها فهي علّة العلل. "

ما العالم إلاّ الوجود العياني الحسّي والزّمن أمر نسبي وهمي مرتبط بهذا العالم الحسيّ" . الإنسان ظاهره الجسد وباطنه الرّوح قالبه مقابل للصورة وقلبه مقابل للمعنى فهو لا ينفك ولا ينفصل عن حركة او سكون وقلبه مثل الزجاج ,دائه عالم الحسّ والكثائف ودوائه عالم المعنى واللطائف لكشف حجبه ومفارقة الظلمات والغوص في باطنه وكنه معناه والتّواصل مع اسرار خالقه والفهم عنه لنيل كرامته بلطيفة الرّوح لأنها قبس من نور مولاها ,فلا اعتبار بخلقة الصلصال بدون نفخة الرّوح الإلهيّة المقدّسة.

الوجود الآني للإنسان عين بصره وبصيرته عين للغيب فليختار أي عين يفتح وبأي عين يحدّق ؟ هل تمّ تمثّل واستيعاب معاني ومضامين الوحي أم تمسّك الإنسان بالرسوم وشغلته الدنيا بشواغلها؟ لقد اصبح الوحي مجرّدا من عمقه وأضحى تلاوات ومواعظ دون تغيير للإفهام والأذهان والعقليات والسّلوكيات.

إنّ فاعلية الوحي واشتغاله يكمن في قوّة استيعابه ودرجة حضور المتلقّي الذّهني والنّفسي لكي تخترق العبارات والإشارات الإلهيّة الأوساط المظلمة في كينونة الذّات لتفهم الرسالة الربّانيّة. الدّنيا مدرسة للجميع حيث التعلّم في فضاء رحب لا يحدّه مكانا وغير مقيّد بتوقيت زمنيّ وكل يسعى حسب نواياه وحاجاته فمعتقها أو موبقها .

فليبادر الإنسان هواه ويداوي علل نفسه ويتحرّز من الدّنيا ويجعلها مطيّة وجسرا لعبوره وترقّيه ويتجاوز العيوب النفسيّة والعقليّة والقلبيّة السّاترة والمانعة عن مطالبة الغيوب . "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ"صدق الله العظيم

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات