رسالة لجميع الثوّار : شهادتي عن الثورة

Photo

أن نثور في أبسط معانيها هو أن نرفض جذريّا الواقع القائم و نسعى لهدمه و آستبداله بواقع جديد : علاقات جديدة .. ميكانيزم آجتماعي مختلف .. رؤى آقتصادية رائدة .. نمط أخلاقي متقدّم .. تثوير المجال القانوني و السياسي و الفكري .. بناء روح جديدة .. و مؤسسات مختلفة تماما ..

أوكي .. دون أن أسترسل في الشرح .. أعتقد أن الأمر واضح تماما هنا : لم يحدث شيئا من ذلك إطلاقا .. أي أن الوعود الثورية باءت لحدّ اللحظة على الأقلّ بالفشل العام .. و يمكن آختصار كلّ المسار الّذي فتحته 17 ديسمبر و آختطفته 14 جانفي في آنهيار الواجهة السياسية للنظام ( فرار الطاغية و بعض أعوانه و أهله ) و آستبدال ذلك بواجهة ديمقراطية تحافظ على نفس الجوهر السياسي و الإقتصادي السابق .. ( إذا كلامي خاطئ أرجو التوضيح و لكم الشكر.)

سأتجاوز إذن النقطة السابقة لأشرح سريعا بعض النقاط الّتي أراها تُظهر بوضوح كافي أسباب فشل الثورة .. طبعا ثمة أسباب تتعلق بالنظام العالمي و بالدولة العميقة و بالمؤامرة .. هذا لا شكّ فيه .. لكنّي أُلقي بأعظم الأسباب على النخبة الحقيقية للبلاد .. فكلّ دول العالم تحكمها نخبتها .. و النخبة عموما و في كلّ مكان مسؤولة عن مسارات أوطانها إمّا بالعمالة أو الخيانة أو بالصمود و المقاومة أو حتّى بالحمق و العنتريات كنخبتنا :

-- سأتحدث عن أمرٍ ما يبدو بسيط لكنه عندي ذو مدلولات عميقة و جوهرية .. هو تجربة معيشية أذكرها بآختصار شديد : منذ 2013 تقريبا فهمتُ أنّ المسار الثوري وقع آحتواؤه نهائيّا و لن تبقى لنا إلا بعض الإرتدادات السطحية مثل الذي نراه الآن .. طبعا يعود ذلك لأسباب عديدة منها قوّة المؤامرة .. الدولة العميقة .. النظام السابق .. الإنفجار الضخم للمافيات و العلاقات المشبوهة .. زد على ذلك ضعف حكومات ما بعد الثورة .. لكن ذلك كلّه لم يكن يعنيني بالدرجة الأولى ..

فكرتي كانت واضحة : إذا كانت الثورة المضادة كما كنّا نُسمّيها وقتها تملك غرفة عمليات تشرف يوميّا على مسارات آحتواء الثورة .. فإنّ الثورة لا يمكنها النجاح دون : غرفة عمليّات + برنامج عمل + نظرية متكاملة بديلة للنظام القديم ..

كنتُ أرى مجموعة هائلة من الّذين يكتبون على مدار الأيام و الشهور دعما للثورة .. يكتبون بقوة هائلة .. يقدّمون أنفسهم كأدمغة ثورية .. كزعماء حتى .. يكتبون بيقين هائل .. مرحى ، مرحى .. إنّ عددهم يفوق عدد زعماء الثورة الفرنسية و البلشفية ..

الفكرة بسيطة جدا : لماذا لا يجتمعون بعيدا عن الأضواء و يبدؤون في حوار شفاف و عميق حول ما يلي : تأسيس غرفة عمليات ( يمكن أن نسمّيها جمعية أو جماعة أو مؤسسة .. إلخ ) + برنامج عمل عميق و واضح لكامل المرحلة الإنتقالية وفق أهداف مدروسة + إعداد نظرية متكاملة فيها الخطاب السحري الّذي يمكنه أن يجمع أكبر شريحة ممكنة من الشعب التونسي إن لم يكن أغلب الشعب التونسي .

أصلا لا أعتبر نفسي رائدا بل أعجبُ كأشدّ ما يكون العجب أن لم يجتمع هؤلاء المثقّفين المحسوبين على الثورة قبل أن أفكّر أنا المجهول البسيط في أمرٍ شديد الوضوح مثل هذا .. المهمّ تقريبا منذ 2014 بدأت حملة آتّصالات واسعة بأغلب النّاشطين في الواقع و في الفايسبوك من أجل الإجتماع ..

بآختصار آتّصلتُ بقرابة الخمسين إسما معروفا .. و بعد عامين حدثت بعض الإجتماعات الباهتة و التي تغيّب عنها أغلب من وعدوا بالحضور ( لربما كانوا بصدد قيادة ثورة ما في جزر الباهاماس …(و غادرها البعض لأسباب أهم من الثورة و من التفكير في مستقبل الشعب و ذلك لأسباب مثل الحضور في حصة تلفزية : هذه نخبة ثورية تبيع الثورة و الفكر و المستقبل من أجل الحضور في إعلام الثورة المضادّة .. إلخ

معروفٌ عنّي أنّي أسمعُ عند اللقاء بالناس الذين لا أعرفهم مباشرة أكثر ممّا أتكلّم .. ربّما كنتُ خاطئا من حيث أنّي أردتُ لتلك الإجتماعات أن تبدأ من ورقة بيضاء و لم أشأ أن أقوم بعمل زعاماتي بأن أطرح أفكارا و رؤًى و أدعو لنقاشها .. لكن يهمّني التنويه بما يلي :

-- أغلب النخبة سكرانة تماما بالظهور الإعلامي و بالجامات الفايسبوكية و بالمعجبين و المعجبات .

-- أغلب النخبة لا يوجد لديها أيّ إنكار للذات بل هدفها من الظهور الثوري هو المجد الشخصي لا أكثر ..

-- أغلب النخبة يتصوّر كلّ واحدٍ منهم أنّه زعيم لن يتكرّر .. و أنّه : إبعد آبعد جا الصّيد ( حليلي نا كي عنّا صيودة بهذا العدد فعلاش صاير فينا هكّا )

-- أغلب النخبة ليسوا مستعدّين للموت في سبيل الثورة و المبادئ لكن يتمنّون العيش بعد النّصر ( كنتُ أعرف أن تأسيس أمرٍ مثل ذلك سيعرّضنا جميعا لمخاطر الإغتيال )

-- كان أسلوبي هو دعوة المثقفين من مختلف التيارات السياسية : يسار ، إسلاميين ، حراكيين ، حتى لو يكون ثمة تجمعيين مستعدين لخدمة البديل الثوري فمليون مرحبا .. لا أؤمن بثورة تشتغل بفئة شعبية ضد فئات أخرى .. بل أعظم الثورات من تهتدي للخطاب الذي يمسّ كلّ الوجود البشري .. لكن أغلب المترددين في الحضور كانوا يساريين تحت تعلّة : " من سيحضر ؟؟ هاو فمة إسلاميين ؟؟ خلّي مرة أخرى ؟؟ .. جوابي : آآآحبيبي راك زعيم ثوري و مصلح عالمي .. تجيك الفرصة كيف هذي و تفلّتها ؟؟؟

-- منذ أن رأيتُ بعضهم يتعجّب أني قادم للعاصمة من المهدية و خاسر فلوس و وقت و تعب على الإجتماع فهمت أنّي نخرّف وحدي .. هههههه ياخي موش فاهمين ها الثوّار أنه حين ندخل مسار ثوري حقيقي فيجب أن نضحّي بأموالنا و أوقاتنا و سعادتنا و نضع حياتنا على حدّ السكّين ..

-- ختاما .. شخص واحد رفض الحضور و قدّم رأيا أزعجني لكن بعد ذلك فهمت عميقا أنه أحد الفاهمين الكبار للوضع النخبوي في تونس : هو السيّد الرائع عبد الحق الزموري الذي أحسن استقبالي و قال لي حرفيّا : " أنت نضال لست حالما فقط بل من الطبقة العليا للحالمين .. أنصحك أن تبتعد في هكذا مشروع عن النخبة الثورية خاصة من تجاوزت أعمارهم 50 عاما .. فجميعهم دون آستثناء جزء أساسي من المشكل و لا حلّ لديهم "

هذه قصّة أرويها لأول مرة .. لتعرفوا هؤلاء المنظّرين للثورة جميعهم .. و لتفهموا أن الشعب عاري تماما من النخبة .. و أنّنا لسنا في وضع ثوري بل في وضع فوضى ثورية بلا أفق غير إعادة إنتاج التبعيّة للإمبريالية بتنازلات أكبر و آنحطاطات أشدّ ..

أغلب هؤلاء الثوار يتّهموني بمعاداة الثورة .. هههههههههههه : أنا أعاديكم أنتم لأنكم تدجّلون على الشعوب .. أعادي العنتريات الثورية .. و لو كنتم ثوارا بالمعنى الأصيل .. إذن لوجدتموني أوّل رجل يقف على المضمار ..

لكن .. برّا أكّاكا .. برّا أكّاكا ..

-- ختاما أحترم جدا جدا العشرة أشخاص الذين واكبوا الجلسات رغم أنها كانت تدور في حلقة مفرغة نتيجة غياب إرادة حقيقية ..

صديقي الجديد أحد فلاسفة البلاد الرافضين للظهور يقول لي دوما ضاحكا من النخبة المعروفة : " الثورة موش لعب ذرّي .. بل ثنيان ركبة للتفكير المرهق و الجذري " .. فبحيث ..

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات