هي مسرحيّة من إخراج و تمثيل غازي الزّغباني بمشاركة نادية بوستّة و محمّد حسين قريّع عن نصّ لحسن الميلي تعرض في فضاء لرتيستو و هي ملفتة للانتباه لأنّها تتناول قضيّة التطرّف الدّيني ، الطّريف في الخطّة الدّراميّة للمسرحيّة هو وضع التطرّفين وجها لوجه و في حيّز مكانيّ محدود ومغلق ،
الحبكة تنطلق من متطرّف فارّ من البوليس الذي يلاحقه فيلتجئ اضطرارا إلى حجرة مومس في المبغى ليختبئ عندها ، البناء الدّرامي قائم على مفارقة الجمع بين متناقضين أو متضادّين .
من نقاط القوّة في هذا العمل :
فضلا عن حرفيّة الممثّلين من مواطن القوّة الالتقاء الإنساني بين الشخصيّتين في لحظة صفاء ، هو وجد عندها الأمان و السّكينة و هي وجدت لديه إنسانيّتها المفقودة ، لم ينقطع هو عن تديّنه و لا هي عن مهنتها ، خلافا للنّهايات النمطيّة " أن تهتدي على يديه للفضيلة أو تدخله عالم المتعة المحرّمة " كانت نهايةً أقرب إلى الواقع الذي لا يساعد المومسات على بناء مسار حياة جديدة خارج عالم البغاء كما أنّ نقيض التطرّف هو التفكير المتوازن والاندماج الاجتماعي السّليم و ليس بالضّرورة التحلّل الأخلاقي ،
و بين نقطة البداية و النّهاية مواقف ركحيّة بين الملهاة و المأساة ، تشنّج و عسر تواصل وحوار و استماع متبادل كانت فيه المومس الطّرف الفاعل وصاحبة المبادرة و السّطوة، كيف لا وهي في حجرتها في مجالها الحميمي بينما ضيفها دخيل يختلف عن بقيّة الزّبائن القادمين على عجل بحثا عن إطفاء شهوة يغادرون بمجرّد قضاء حاجتهم و ربّما يغادرون قبل قضائها كما حصل مع الشخصيّة الثّالثة الزّبون الذي جاء ليعوّض ما لا توفّره زوجته التي تبقى في عينه شريفة ومحلّ احترام مقابل احتقاره للمرأة التي يزورها لتملأ النّاقص لديه ،
ضيفها خائف يبحث عن الأمن و الدّفء و هي بغيّ تبحث عن رجل بكر يمكّنها من متعة افتضاض بكارته، متعة لذاتها خارج معايير التّسليع الجنسي ، و كان لكليهما ما أراد،
من نقاط الضّعف في هذا العمل :
كان يفترض أن يفضي التّواصل الحميمي بين الشخصيّتين إلى الإفضاء و البوح و استدعاء السياقات التي حفّت بمسار كلّ واحد منهما و أفضت به إلى الحال التي هو عليها، لكن الحوار لم يبلغ إلى العمق و لم نفهم منه كيف أصبح المتطرّف متطرّفا و البغيّ بغيّا ، رغم عدد من القرائن التي تشير ضمنا إلى وجع يسكن كليهما فالبغيّ لا تزال تسكنها الطّفلة البريئة رغم الخبرة الفائقة في عالم الذّكور ، و المتطرّف كان مسكونا بالحيرة و التذبذب و الاضطراب رغم تكوينه العلمي الجيّد ، ليس أكثر من ذلك.
ربّما لم تكن خطّة العمل تهدف إلى تشخيص الظّاهرة وتفسيرها و تقديم رؤية ضمنيّة لمعالجتها ، ربّما كان القصد فنيّا دون رسائل مضمونيّة مباشرة سوى ما تحقّق للمومس من القدرة على دفع المتطرّف إلى حلق لحيته ليبرز وجهه و ذلك عبر حيلة ادّعت من خلالها أنّها حامل منه و قايضته حلق لحيته بإسقاط الجنين الوهميّ ثمّ افترقا و هو يحمل ربّما صورة أكثر تنسيبا عن عالم البغايا فالتي التقاها مومس شريفة إذ كان بإمكانها أن تبلّغ السلطات بتواجده في حجرتها لكنّها تجشّمت مخاطر التستّر على متطرّف ملاحق من الأمن وغلق مورد رزقها طيلة الأيّام التي آوته فيها ،
غلب التعرّي و الانكشاف الجسدي على تعرّي الشخصيّات و انكشاف عقدها ومواطن الوجع و الخلل والهشاشة كأنّ الفعل الجنسي كفيل بتحرير الشخصيّات من آلامها و ازمتها و تشوّهاتها النفسيّة و الفكريّة .
مقارنة بمسرحيّة إرهابي غير ربع للمسرحي رؤوف بن يغلان كانت المقاربة مختلفة رغم الاشتراك في موقف مواجهة متطرّف في الهربة من طرف مومس و في إرهابي غير ربع من طرف مخرج مسرحيّ ،
راهن بن يغلان في البناء الدّرامي على الحوار المتبادل بقصد استدراج الشخصيّة للكشف عن هواجسها وقناعاتها و أوضاعها و السياقات الموضوعيّة التي رافقت مسيرة حياتها ومرّر المخرج من خلال الحوار و دون إسقاط رؤيته عن أسباب الظّاهرة و دوافعها و طرق معالجتها ، بينما لم يكن الحوار في الهربة متكافئا بل كان تحت الإكراه و التّهديد والخوف من البوليس و المعصية لذلك كان متقطّعا مضطربا بدون خيط تراكميّ ناظم ينشئ حوارا تبادليّا أفقيّا ،
لم يشيطن مخرج الهربة شخصيّة المتطرّف رغم المواقف السّاخرة و لم يبرزه في الصّورة النمطيّة السّائدة و لكن جعله سلبيّا في البناء الدّرامي و جعل للمومس عليه سطوة فهي الشخصيّة الإيجابيّة التي بنت كلّ المواقف و صنعتها .
بينما كان المتطرّف الإرهابي في إرهابي غير ربع شريكا في البناء الدّرامي وتدفّق الحوار التفاعليّ و تراكمه ربّما هذا ما أفضى إلى النّهاية " السّعيدة " استعادة الإرهابي إلى حضن الوطن.
يبقى المسرح فضاءً مميّزا لتشكيل وعي جديد بالواقع و إعادة كتابة العالم وبنائه ، و في ذلك تتفاوت قيمة الاعمال المسرحيّة.