اللغة واللغو وإلغاء الاخر

Photo

"ثنائية الفضاء الثقافي بين التهميش والمآرب السياسية":

من الثنائيات الراسخة على الاقل منذ العقد الثاني من القرن الماضي هي تلك التي نشأت بإرساء المدارس والمعاهد الحكومية غير القائمة على المناهج الزيتونية ثم ترحيل المتفوقين منها، بعد ان تُثمّن جهودُ البعض منهم في فعاليات المؤتمر الإفخارستي، الى المدارس والجامعات الفرنسية حيث يستلهمون من القيم الأوروبية والعلوم الحديثة ما يكفي لكي تكون فلسفتُهم و رُؤاهم في الدين والمجتمع والدولة (التي ساسُوها منذ الاستقلال)، مختلفةً عن تلك الخاصّة بالمتخرجين من المدارس التقليدية المحلية والذين لم تؤخذ مطالبُهم "بإصلاح التعليم" مأخذ الجدّ منذ وقائع الجلاز عام 1911 لا من قِبل المستعمر آنذاك ولا من قِبل السلطة إبّان الاستقلال التي أدمجت التعليم الزيتوني في الهيكلة المُعتمدة في بناء "الدولة الحديثة".

ومع انّ هذا المنحى قد ساهم بنصيب الأسد في جعل النظام التعليمي التونسي من افضل النظم في العالم العربي خلال الستينات والسبعينات والثمانينات لما بناه من قدرات تحررية ومن تنوع التيارات الفكرية، فلا يختلف اثنان حول ضرورة انتشاله مما هو فيه الان…

ولأنّ التعليم ظلّ ولا يزال الفضاءَ الأرحب لترسيخ القيم المجتمعية وإرساء النمط الاجتماعي المستهدَف والتمكين من الترقي الاجتماعي، دام محلَّ تجاذب بين ذوي المرجعية القيمية والسلوكية المُحافِظة من تيارات اسلامية (متأثرة بمرجعيات مثل محمد عبده، الافغاني،..) وعروبية وقومية (سيف الدولة، عفلق، بيطار،..) تؤمن بعمق هويتها المتجذرة في تاريخها و بمعاصرةٍ ترنو الى استرداد دور في الحاضر من جهة، والتيارات اللائكية العازلة للدين من الفضاء العام من جهة أخرى، سواءً من يمين ليبرالي "بروتستانتي" ( (Wagner، او قبله Bentham..) يُخضِع بعضُها القيمَ المجتمعية في آخر المطاف لحاجيات السوق ورأس المال، او تيارات ماركسية (Bordiga, أو Gramsci،..). وتؤمن هذه الأخيرة في غالبها بتحوّل القيم وتأقلمها مع متطلبات الواقع وانصهارها في منظومة قيمية معوْلمَة تدفع الفرد الى التقاط أسباب تحقيق ذاته في فضاء بدون قيود مُسبقة، وتلك هي الحداثة في أدبياتهم. ( وقد بقيت هذه التيارات النخبوية في غالبها بين منزلة التباكي على ماضٍ مجيد ومنزلة التآمر على قَدَرِها، وكلاهما في فلك العولمةِ يسبحان ولذات التحديات العميقة مواجهان.

وحيث انّ هذا التجاذب خلّف مواقف عنيفةً في بعض الأحيان طيلة عقود، وقد كنت شاهدا على العديد منها في ساحات المركب الجامعي وغيره، إذ اتسعت دائرته لتدرك الهوية والأنماط السلوكية والإصلاحات التربوية والتعليمية، فإنه يختفي تارةً ويطفو على السطح كلّما تزعزعت ثوابت البناء الاجتماعي بأزمات سياسية واقتصادية حافظت الى يومنا هذا على طابعها التوالدي الدوري، وانعكست بالتوتّر مع الدولة منذ اكثر من ستين عاما.

ولعلّ تاريخ ما بعد الحداثة الاولى في أوروبا الغربية يشير الى إلتجاء الشعوب الى مكمن الهوية كلما كانت هناك أزمة او حرب او مجاعة او استعمار (وهذا ما يشير اليه واقع المجتمعات العربية الحالية من صعودٍ لأصوات الأقليات الثقافية والتطاحن غالبَ الأحيان بلباس سياسي مسلّح يتداخل فيه البعد الاستراتيجي الاقتصادي البحت، والمُعطى السياسي الفارض للصراع من أجل البقاء).

ولن ينتهي هذا النوع من التجاذب الثنائي (حداثة/تقليد) في تونس والذي يتنامى كذلك في الفضاء الثقافي والنظام الإجتماعي التواصلي باتخاذ النّظام اللغوي (على معنى فتجنشتاين، وروّاد حلقة فيانا) تارةً وبرفض الآخر وإلغائه وتهميشه تارةً اخرى، طالما يغذّيه تجاذبٌ أعمقُ وهو المتعلّق بالدور السّياسي الذي يريد كلّ طرف ان يلعبه على حساب الاخر وهو يعكس بالضرورة التجاذب في توزيع مصادر النفوذ (المحلية أو الخارجية ) والثروة والإستحواذ على آليات تراكمها تحت مظلات مختلفة تتخذ من تعدد الشرعيات سبيلا لمآرب مصلحية تهدد بجعل المستقبل رهينةً لن تتحقق فيه المطالبُ الحقيقية لعموم الناس.

فعلى المثقف الانتباه الى الانتقال الذي يبدو طبيعيا بين شرعيات مختلفة (شرعية الشارع وشرعية الكفاءات وشرعية الخبرة وشرعية الانتخابات وشرعية الدستور، وشرعية التكلّم بلغة معينة.. ) والذهاب بها الى قضايا هامشية وليست مستعجلة.

وبعنوان "الذكاء المحلي" و"الابداع التونسي" و"المرونة في التعاطي مع مستوجبات الانتقال الديموقراطي"، وهي شعارات ليست لها مضمونٌ لدى عامة الناس، يتمّ التخلي عن إحداهنّ لفائدة الأخرى وفق موازين القوى وكلما تهددت مصالح المتربّصين بثروات البلاد او المستفيدين من فُتاتِ إدارتِها والحالمين بغدٍ أفضلٍ سهلِ المنال، حتى وان كان ذلك على حساب "" كإحدى العناوين البارزة ذات يوم..

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات