للذين يعرفون سد ملاق العظيم وبحيرته: زيارتكم القادمة ستكون للتأبين وقراءة الفاتحة على قصة أعظم سد وأجمل حلم في تونس، إذ لن تجدوا سوى "مطملاية" عملاقة ورائحة الطين المستنقع والسمك المتعفن وآلاف الأشياء البلاستيكية والخشبية التي حملها الوادي من منابعه المتعددة في الجزائر وتونس. السد لن يتحرك من مكانه، لكن وظيفته في حجز الماء ستكون قد انتهت،
نحن الذين نشأنا عند السد أو "الوزينة" كما كان الكبار يسمونه، كنا نظن أنه خالد لكبره، وقد أدركنا حرقة الف رنسيين الذين بنوه على فراقه: بدأوه في 1949 وأتموه في 1956، كان أعجوبة هندسية لا مثيل لها في العام، لكن الدولة الوطنية كانت أعجز من أن تسيره بنفسها للتصرف في 300 مليون متر مكعب من الماء وإنتاج 17 جيغا وات من الكهرباء سنويا للدولة الفتية، لذلك تركت الفرنسيين يتمتعون بأجمل ما يمكن أن يفعله الإنسان في الطبيعة،
قرية جميلة ذات بيوت منظمة تغمرها الحدائق الغناء ذات مدافئ بالحطب لليالي الشتاءات الجميلة، مدرسة كأنها جلبت لتوها بحدائق الورود وسقوف الترنيت من سويسرا وحي تجاري جميل، غابات وجبال ونهر لأيام الآحاد وبحيرة زرقاء لسباقات المراكب الشراعية مساءات السبت، 17 ملعبا رياضيا من الكرة الحديدية إلى كرة القدم مرورا بقاعتين مغطاتين للرياضات الداخلية، وحتى لا أنسى: حانة ومطعم فاخرين بعضهما على حافة الماء كانت شهرتهما تطويان الآفاق، وطبعا: كنيسة فاخرة لترتيب الأمور السرية مع الرب،
نحن حين عوضنا المستعمر البغيض، شوهنا البيوت بالكنتول والآجر وحولنا الحدائق إلى غرف إضافية والملاعب إلى أحياء فوضوية، لكن الخسارة الحقيقية كانت أكبر بكثير، ففي الأثناء، نسي الجميع ما خطط له بناة السد: حمايته من الوحل بتشجير ضفاف كل الروافد حتى حدث ما كان متوقعا:
ارتفع منسوب الطين مع مرور السنين، كانوا كلهم يرون موت السد الأعجوبة أمامهم، لكن لا أحد في دولة المركز اهتم لحل حقيقي للأطراف، كانوا يأتوننا من العاصمة في عقوبة نفي إداري، أبناؤهم يحبوننا من باب البراءة وهم يعتبروننا في وضع أسوأ مما كان المستعمرون يروننا: اللأهالي les indigènes،
عمق البحيرة كان يقترب من 60 مترا وطولها 25 كم بعرض كيلومترين، يا للفخر، روى قريب لي أن أجمل ما يمكن أن تقع عليه عينك في الستينات هي النساء بملابسهن البيضاء لأيام الآحاد مع أطفالهن على متن مركب بحري في الربيع نحو الضفاف الشمالية حيث ينتظرهن سمك نهري مشوي وفونوغراف لأحدث الأغاني، عندما كان الناس يحبون الطبيعة ويعطون لحياتهم معنى،
الطين أكل البحيرة والذكريات، الآن هناك مستنقع ضخم بحجم 1600 هكتار من القذارة، وقد دفعني الأسى والحزن على ذكريات السد الجميل إلى أن أكتشف أن الصينيين يصنعون أجود أنواع الفخار الشفاف منذ آلاف السنين من مترسبات السدود بحثا عن أدق مركبات الطين،
وهذا النص هو نعي لسد عظيم وذكريات إنسانية جميلة، عما إذا كان هناك تونسي يملك حلا لجهر البحيرة، ربما يأتي جيل يعيد لها أمجادها وقدرتها على جعل الحياة أكثر احتمالا،