ذلك هو فرنسوا ميتران، رئيس فرنسا الأسبق، الذي مات متحسرا على شيء لم ينله، وموهبة لم يمتلكها، واعترف صادقا أنه ضيّع بسبب من ذلك حياته. عاش وفي البال أمنية، ومات وفي الحلق غصة، وفي القلب أسى.
قبل سنة من وفاته، اعترف لأحد جلاّسه بأنه لم يحقق أمنيته، وأنه أخفق في تحقيق مطمحه الأساس أي أن يصبح كاتبا، وهو الذي نشأ على قراءة عيون المدونة اللاتينية (هوراس، فرجيليوس…) وولع منذ شبابه بنصوص أعلام اليمين قبل الحرب العالمية الثانية (كلوديل، برنانوس، مونترلان…) فكان الانخراط في العمل السياسي تعويضا عن ذلك الفشل.
ورغم أنه بلغ من مراتب السياسة أعلاها، وانتخب رئيسا لدولة عظمى بعد تقلد عدة مناصب وزارية، ظل ذلك الإخفاق يفسد عليه كل متعة، وما فتئ يغبط الكتّاب، ويُسَرّ بخلطتهم، فكان يستدعيهم إلى القصر، ويحاورهم في شتى القضايا الفكرية والأدبية، ويشدّ أزر المعوزين منهم، ويزور من أقعده المرض وألزمته السنّ بيته، ويأمر الشرطة بألا تعترض طريق من أفقده الإدمان رشده، وكأنه يتدارك ما فاته زمن الشباب حين ترك ريفه في مقاطعة بواتوشارنت، وجاء إلى عاصمة الأنوار للدراسة يحدوه أمل بإيجاد مقعد في حلقة من حلقات الأدباء، ليَسمعهم أكثر مما يسمعونه، ويأخذ عنهم لعله يجد في حديثهم هداية إلى معالم الطريق، طريق الكتابة والإبداع، التي كان قد بدأ يجرب حظه فيها مستهديا بأساليب الكلاسيكيين، ولكن الحياء منعه.
أجل، الحياء! وهو الذي سيلقي بنفسه في أتون معترك لا مكان فيه لشفقة أو رحمة، وسيُعرف عنه فيما بعد شدة شكيمته، وجرأته في دحر الخصوم والأنصار على حد سواء سرّا وعلانية، وقدرته على المناورة وضرب اليمين باليمين المتطرف لبلوغ غايته، فضلا عن حياته العاطفية التي تستّر عليها حتى النهاية.
والغريب أن تلك الطاقات الكامنة كلها لم تسعفه في مغالبة خجله أول قدومه إلى باريس كي يتقرب من الأدباء ويتعرف إليهم، إذ لم يفلح إلا في حضور بعض محاضرات لجوليان بندا وشارل بيغي.
ذلك هو فرنسوا ميتران، رئيس فرنسا الأسبق، الذي مات متحسرا على شيء لم ينله، وموهبة لم يمتلكها، واعترف صادقا أنه ضيّع بسبب من ذلك حياته.
كان يمكن أن يستكتب أحد المقربين منه ليؤلف له ما يشاء من كتب أدبية، ويعهد للمؤسسات الثقافية بإعداد ندوات دولية حول منجزه الأدبي، ويستدعي كتّابا ونقادا وأكاديميين من أطراف الدنيا للإشادة بنبوغه، وجدة أسلوبه، وعمق تحليله، وبعد رؤيته وما إلى ذلك مما ألفناه من مديح، مدفوع الأجر، في بلادنا العربية، ولم يفعل. لأنه كان على يقين بأن الغشّ عمل غير أخلاقي في شتى مجالات الحياة، ما عدا السياسة.