تنويه: أهدي هذا المقال/الخاطرة لبعض الأصدقاء الأذكياء
أيّهما أكثر نباهة الذكيّ أم المبدع؟
دعونا أوّلا نعرّف الذكاء ونعرّف الإبداع.
الذّكاء هو حسن التكيّف مع وضعية تتحدّى فهم الفرد. أي التسليم بمعطيات الواقع وإجراء مواءمة وتعديل للبنيات الذهنية من أجل الاستيعاب الجيّد للمعطيات الخارجية وهضمها. الذكاء إذن يخص نظرة معينة خطية convergente et linéaire للوضعيات والمشكلات تفضي إلى حلول نمطية لها. أي تتكرر على نمط واحد ، ومن هنا يأتي القانون الثابت الذي يضبط ضرب العلاقة مع الموضوع المطروح.
ينبني على هذا السلوك المعرفي سلوك عملي يتمثل في عدم التصادم مع الواقع وإنما حسن التعامل معه باستيعابه والتكيف معه. في المجال الاجتماعي والعلائقي يمكن أن يكون صاحب هذا الذكاء شخصا اجتماعيا مقبولا ومهضوما من قبل المحيط الاجتماعي القريب.
وفي المجال السياسي يمكن أن يوصف هذا "الذكي" بالعاقل والرصين وغير المتهور والمساير للنمط السائد الفاهم لقواعده وأصوله، مثل عموم نخبتنا المثقفة قبيل الثورة بأيام وسويعات قليلة. ويتكون من مجموع هؤلاء الأذكياء جيش من العملاء، أي المتكيفين مع السيستام، والخبزيست، في الصحافة والإعلام والسياسة والإدارة والثقافة الرسمية والتدين الرسمي...الخ.
الإبداع، على خلاف الذكاء، لا ينطبق عموما على وضعيات تعالج بنظرة نمطية، وإنما على مشكلات مركّبة تتطلب نظرة ومعالجة متشعّبة. الحلول التي يجترحها المبدع حلول غير نمطية ومتشكلة على غير مثال جاهز.
المبدع بهذا المعنى لا يمكن التنبؤ بسهولة بسلوكه لا المعرفي ولا الاجتماعي والسياسي. المبدع ليس "رصينا" ولا "رزينا" ولا مثقلا بضوابط النمط السائد والمفروض على الغالبية الساحقة "العاقلة".
المبدع يمتح من معين الحرية، فالإبداع مستحيل من دون حرية. المبدع حرّ. وحتى يبدع المبدع عليه أن يكسّر قيود الاستعباد والتنميط. فإذا لم تتح له الحرية اللازمة، يصبح متوترا وربما عدوانيا، ضد مصدر الاعتداء على حريته وملكة إبداعه. لذلك يظهر المبدع للأذكياء "العاقلين" فحسب أنه "خلواض".
يعمل على خلوضة الوضع السائد لأنه يرسم له حدودا حديدية لتصرفه واختياراته. ولكن في مناخ الحرية الحقة، لا يبدو المبدع "خلواضا" بل "فنانا موهوبا". مغنو موسيقى الراب خلواضة بحسب إيقاع "بالأمن والأمان يحيا هنا الإنسان". والمعارضون السياسيون الذي دعوا للعصيان المدني، لا مجرّد "النضال" من أجل توسيع هامش الحريات" هم كذلك كانوا يوصمون بالتخلويض…
مثلما هو الحال الآن، بخصوص الذين يرفضون التوافق مع النظام القديم بما ينطوي عليه من فساد ونزوع لضرب الحريات والاستبداد، ومن عمالة للقوى الكولونيالية والصهيونية، هؤلاء الذين لا يتكيفون مع السيستام يبدون في عيون أذكياء التوافق مع النّمط المكرس منذ عقود بكل ما فيه من اختلالات وتشوّهات قيمية أخلاقية ومدنية، يبدون في أعينهم متهورين وخلواضين وثورجيين، حتى وإن التزموا الحد الأدنى من "الذكاء" والتكيف المطلوب مع النوفوسيستام، السيستام المقرر دستوريا، أي البناء السلمي الديمقراطي.
زبدة القول، علينا الآن أن نؤسس لكوجيتو اجتماعي- سياسي مواطني جديد كوجيتو الحرية والإبداع المكسر للأنا أفكر "في مصلحتي"، كوجيتو أنا "خلواض" أي مبدع متمرّد إذن أنا حرّ وأنا حرّ إذن أنا موجود، وأنا موجود وجودا يليق بإنسانية الإنسان، لأنه لا وجود إنساني لمن ينساقون لنمط العيش والعمران السائد انسياق الأنعام والبهائم.
أعود إذن لطرح سؤال البداية: أيهما الأكثر نباهة الذكي أم المبدع؟ وأترك لكم سبيل الاختيار بين النباهة والاستحمار.
لازمة منطقية: ليس كل ذكيّ مبدعا بل كل مبدع ذكي وزيادة.
التفسير: المبدع ذكي، لأنه يستوعب الواقع والواقعة، ولكنه لا يستجيب له بمجرد التكيف، بل يعمل على تغيير هذا الواقع وتثويره بالإبداع الفكري والسياسي.
الحد الأقصى للخلواض المبدع هو الثورجية الفوضوية والحد الأوسط هو موقع الثورة الديمقراطية السلمية. وهذه هي الوسطية المطلوبة والحقيقية وليست الوسطية الساذجة الزائفة.