الإشكال القانوني المطروح: بالنظر إلى النظام القانوني التونسي ،هل يحقّ لمجلس نوّاب الشعب أن ينظر في قرار هيئة الحقيقة و الكرامة بالتمديد في أعمالها لسنة ، لغرض المصادقة من عدمها ؟
لغرض الإلمام بكلّ جوانب الإجابة على هذا الإشكال الهامّ، نقترح تناوله من خلال منظار القانون الإداري (2) و من خلال منظار القانون الدستوري (1) ، كذلك، و يُرجع هذا الأمر إلى تمازج البعدين ، الإداري و الدستوري ، في الإشكال المطروح.
1/ تناول المسألة من منظور القانون الدستوري:
يتّجه، بادئ ذي بدء ، التذكير ببعض البديهيات ، و التي كثيرا ما نستشفّ من خلالها العناصر الرئيسية للجواب على الأسئلة المطروحة ، مها كانت درجة تعقيدها .
نذكّر ، إذا، بأنّ السّلط الرئيسية في نظام الدولة هي ، كلّها، سلطات مؤسّسة Pouvoirs constitués ، وهي قائمة الذات و تعمل و تنتقل بموجب إرادة السلطة التأسيسيّة Pouvoir constituant المعبّر عنها صلب دستور 27/1/2014، بالنسبة للموضوع الذي يعنينا.
فمجلس نواب الشعب يجسد السلطة التشريعية و يستمدّ صلاحياته، على وجه الحصر، من هذا الدستور ولا يمكن للمجلس ، بأيّ حال من الأحوال، أن يعطي لنفسه صلاحيات لم يعطيها إياه الدستور و إلا لانسلخ عن صفته كسلطة مؤسَّسة Pouvoir constitué ليصبح سلطة مؤسّسة Pouvoir constituant.
و بالرجوع إلى الدستور برمّته، للأحكام الخاصّة بالسلطة التشريعية الواردة في الباب الثالث منه و لغيرها من الأحكام المضمّنة فيه، لا نجد أثرا لما يمكن أن يؤسّس لصلاحية أو إختصاص يُرجع لمجلس نوّاب الشعب يمكّنه من النظر في المصادقة من عدمها على قرار الهيئة بالتمديد لسنة، بل نجد ما يفيد عكس ذلك، تماما.
إذ بوضع هذه المسألة المطروحة في محكّ مقاربة شاملة للأحكام الواردة في الدستور، تتبيّن لنا عدّة حقائق أو معطيات لا يمكن لعاقل، خبير بالقانون العامّ أن يتجاوزها.
حيث نصّ الفصل 148 من الدستور التونسي لسنة 2014 في فقرته التاسعة على أنّ الدولة "تلتزم " بتطبيق منظومة العدالة الإنتقالية في جميع مجالاتها " .
و حيث ، و للدلالة على أهمية منظومة العدالة الإنتقالية ، المكرسة دستوريا ، فإن السلطة التأسيسية الأصلية فرضت على الدولة ، بكلّ مكوّناتها و هياكلها و مؤسساتها الإلتزام بتطبيق مقتضياتها، بما يترتب عن ذلك ، من تعطيل بعض المبادئ العامة للقانون لغرض تطبيق موجبات منظومة العدالة الإنتقالية ، من ذلك مثلا، مبدأ "عدم رجعية القوانين " أو مبدأ "إتصال القضاء " أو مبدأ "سقوط الجريمة بمرور الزمن "، كيفما نصّ على ذلك الفصل 148 من الدستور في فقرته التاسعة .
و حيث أنّه، و بالنظر إلى تكريس منظومة العدالة الإنتقالية في الدستور التونسي المؤرّخ في 27 جانفي 2014 ، و إلتزام الدولة بتطبيقها ، فإنّ فرضية عدم إتمام هيئة الحقيقة و الكرامة لعملها في الأجل المبدئي (4 سنوات) المحدد بالفصل 18 من القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 قد تحقّقت كيفما وقع بيان أسبابه في التعليل المرافق لقرار التمديد المرسل لمجلس نواب الشعب.
إنّ المنطق الذي يحدو مفهوم العدالة الإنتقالية يفرض ويفترض إستقلالية الهياكل التي تعنى بتطبيق مقتضياتها إزاء كل السلط لأن أعضاء السلطة التنفيذية و التشريعية و القضائية هم خصوم محتملون للعدالة الإنتقالية ، فالمرتكب الرئيسي للإنتهاكات التي تنظر فيها هياكل العدالة الإنتقالية هو الدولة بسلطاتها الثلاث و بأجهزتها ، فكيف يقع إقرار صلاحية النظر في تمديد مدة الهيئة من عدمه للبرلمان و هو ، بهيكله و أعضاءه خصم محتمل في منطق العدالة الإنتقالية؟
لا يمكن، بأي حال من الأحوال أن يخضع الهيكل الرئيسي الذي يعنى بتطبيق مقتضيات العدالة الإنتقالية لإرادة سلطة أخرى في تحديد مدته، إذ في صورة وقوع الإقرار بذلك، فمن شأن هذا أن ينسف كل مفهوم العدالة الإنتقالية و يحوّل المسار الحالي إلى شيء آخر مختلف عن مفهوم العدالة الإنتقالية ، يستوجب أن نطلق عليه تسمية مختلفة.
و يترتب عن فقدان هيئة الحقيقة و الكرامة لسيادة نفسها في تحديد مدتها ، في حدود ما مكنها به القانون المنشأ لها، فقدانها صفة الهيكل الرئيسي الذي يعنى بتحقيق إستحقاقات العدالة الإنتقالية و تحوّلها إلى مجرد لجنة تعمل تحت رقابة و إشراف السلطات العليا في الدولة.
و من المعلوم أنّه ليس هنالك أي بديل عن هيئة الحقيقة و الكرامة يحلّ محلها لإتمام النظر و التحرّي في الملفّات المودعة لديها في صورة ما إذا عمد البرلمان إلى إنهاء مدّتها باختلاق صلاحية لم يعطيها إياه لا الدستور و لا القانون المنشأ للهيئة.
و في صورة حدوث ذلك و في غياب أية مؤسسات أو آليات أخرى تقوم مقامها لإتمام مهمتها التي ثبت و أنّها لم تُستكمل، فإنه سيترتب،لا محالة، عن إختفاء الهيئة من المشهد ، وضعية عامّة مناقضة للدستور une situation générale inconstitutionnelle بما أن منظومة العدالة الإنتقالية ستتعطّل و تتوقّف يقينا و بصفة نهائية لو إضمحلّت الهيئة قبل إتمام مهامّها .
و ممّا لا يرقى إليه الشّكّ، فإنّه سيترتب عن ذلك ، أيضا، سقوط إلتزام الدولة بتحقيق موجبات العدالة الإنتقالية، و هو إلتزام فرضته السلطة التأسيسية الأصلية ، صاحبة السلطة الأولى و المطلقة، على السلطات المؤسّسة les pouvoirs constitués، التي ليس لها أن تتفصى مما ألزمتها به السلطة التي أسستها، و إلا لأصبحت فاقدة للشرعية و من شأن ذلك أن يضع كلّ المنظومة الدستورية، بكلّ مؤسّساتها و هياكلها، التي تتجلى من خلالها الدولة، في وضعية مخالفة للدستور، بما من شأنه أن يسحب الشرعية الدستورية عن تلك المنظومة نظرا لخرقها للمبدأ الرئيسي و الأساسي الذي يحكم هذا المجال، و هو التالي:
السلطات المؤسَّسَة تستمدّ وجودها و شرعيّتها من إرادة السلطة التأسيسية و لا يمكن لها أن تتمرّد على ما أُلزمت به من طرفها و إلا، فتكون قد فقدت شرعيّتها، و أصبحت سلطات أمر واقع.
Les pouvoirs constitués puisent leur existence et leur légitimité de la volonté du pouvoir constituant et ne peuvent, de ce fait, se dérober des obligations qu’il leur impose sous peine de perdre leur légitimité et de se transformer en pouvoirs de fait
تأسيسا على ما سبق ، إذا ، يتضح لنا ، من منظار القانون الدستوري، أنّ مجلس نوّاب الشعب ليس له ، مطلقا، أن ينظر في قرار التمديد الصادر عن الهيئة، و أنّه ، لو فعل ذلك و عمد إلى رفض التمديد ، لكان هذا الصنيع بمثابة الإنقلاب على الشرعية الدستورية الذي من شأنه أن يضع في المحكّ شرعية المجلس نفسه، فضلا عن أنّ هذا الأمر لا يستقيم ، أيضا، من منظار القانون الإداري.
2/ تناول المسألة من منظار القانون الإداري:
بالرجوع إلى القانون المنشأ للهيئة ، و الذي أقرّه المجلس القومي التأسيسي، أي نفس الهيكل الذي أقرّ الدستور الذي يستمدّ منه البرلمان وجوده و صلاحياته ، نجد أنّ الفصل 18 ينص على ما يلي :" حددت مدة عمل الهيئة بأربع سنوات بداية من تاريخ تسمية أعضاء الهيئة قابلة للتمديد مرة واحدة لمدة سنة بقرار معلّل من الهيئة يرفع إلى المجلس المكلف بالتشريع قبل ثلاثة أشهر من نهاية عملها.
من الواضح ، من خلال هذا النص، و وفق ما تحتّمه مقتضيات العدالة الإنتقالية التي تتنافر تماما مع فكرة أن إحدى السلط الأخرى تكون لها اليد العليا على هيئة الحقيقة و الكرامة، بحيث تتدخل في تحديد مدتها، أنّ المجلس التأسيسي أسند للهيئة دون سواها صلاحية إتخاذ قرار التمديد ، و قد أورد، في هذا الفصل، مصطلح قرار، و الذي من المفروض أن يحسم لوحده لدى كلّ لبيب في دقائق و رقائق القانون العامّ، كلّ جدل و منافحة.
فحينما يستعمل المشرّع الدستوري مصطلح "قرار" ، يجب أن يحمل هذا اللفظ على معناه الظاهر و يجب أن نفترض أن المشرّع ( و هو المجلس التأسيسي، في موضوع الحال) لا يتلاعب بالألفاظ و يعني ما يقول.
ففي حقل القانون الإداري، المنطبقة مفاهيمه على موضوع الحال، لا يعني "القرار" إلا شيئا واحدا:
- هو عمل قانوني يكتسي الصبغة الإنفرادية le caractère unilatéral ، بمعنى أنه يصدر عن الإرادة المنفردة للهيئة المعنية ، دون سواها ، و أنّه يتميّز بعدم مشاركة المعنيين به في إتّخاذه
- و يكتسي، كذلك، و بصفة متلازمة، الصبغة النّافذة le caractère exécutoire ، بمعنى أن يكون القرار قابلا للتطبيق منذ إصداره و دون إنتظار موافقة أو مصادقة أية سلطة أخرى ، و إلاّ ، لما كان قرارا و لأصبح رأيا أو توصية أو أي صنف آخر من التدابير
و في هذا السياق ، إعتبر مجلس الدولة الفرنسي ، في قراره CE assemblée. 2 juillet 1982, Huglo et autres ، على سبيل الذكر، أنّ الصبغة النافذة للقرار تعني نفاذه المباشر بقطع النظر عن موقف المعنيين به و بدون إنتظار موافقة أو مصادقة أي طرف كان ، و يعتبر ذلك بمثابة الأساس الجوهري للقانون العامّ (Une règle fondamentale du droit public) .
تأسيسا على ما سبق، فإن النوع الوحيد من الرقابة الذي يمكن أن يمارس على القرار بالتمديد الصادر عن الهيئة يتمثّل في التحري في مدى إحترامه للصيغ الشكلية الجوهرية المنصوص عليها في نفس الفصل ، من وجوب تعليل القرار، و رفعه إلى المجلس المكلف بالتشريع و القيام بذلك قبل ثلاثة أشهر ، على الأقلّ، من نهاية مدة عملها، و هذا ليس من مشمولات مجلس نواب الشعب بل من إختصاص المحكمة الإدارية.
أما في خصوص إعتبار أن كلمة رفع تعطي للبرلمان صلاحية المصادقة من عدمها على قرار الهيئة، فلا يمكن إستساغة هذا الفهم جملة و تفصيلا،
فمن ناحية ، لو سلمنا بذلك ، لوجب خرق ما أورده الفصل 18 من أنّ الهيئة تتخذ قرارا في التمديد، و من ناحية أخرى ، لوجب إعتبار أن الهيئة ليست مؤهلة للقيام بمستلزمات العدالة الإنتقالية لأنها لا تملك أمر نفسها و أن مدتها تقرّرها سلطة أخرى في الدولة قد تكون خصما و حكما في نفس الوقت، كلّ هذا، فضلا عن أننا لم نسمع لا في الأولين و لا في الآخرين بأن مصطلح "يرفع" يفيد خضوع السلطة "الرافعة" لإرادة السلطة " المرفوع إليها" ، ولا يفوتنا ، هنا أن نعبّر عن إستغرابنا من هذا التأويل إذ أنّ المشرّع لم يكن يُعجزه أن يقول، بصريح العبارة أنّ التمديد يخضع لمصادقة المجلس المكلف بالتشريع و أن الهيئة لا تتخذ قرارا بالتمديد بل "ترفع" طلب التمديد إلى البرلمان ، أو غير ذلك من الصيغ الممكنة التي تعبر عن هذا المعنى.
فحينما تُستعمل عبارات " يرفع رئيس دائرة المحاسبات تقريرها السنوي لرئيس الجمهورية"، هل يعني ذلك أنّ هذا التقرير يحتاج إلى مصادقة رئيس الجمهورية؟
بناءا على المعطيات و المبادئ و الآليات المستمدّة من القانون الدستوري و من القانون الإداري، يتّضح لنا، إذا، بما لا يدع مجال للريب ، أنّ مجلس نوّاب الشعب غير مؤهّل قانونيا للنظر، بأية صيغة كانت، في قرار التمديد لسنة الصادر عن هيئة الحقيقة و الكرامة.
المراجع:
أنظر ، في هذا الخصوص، على سبيل الذكر:
-P.Delvolvé, Encyclopédie Dalloz, « Contentieux administratif »,voce « acte administratif », sous la direction scientifique de Dennys De Bechillon, 4 volumes, 104 rubrique, 2500 pages, Paris, Dalloz, s.d.
-P. Delvolvé, L'Acte administratif, Paris, Sirey, 1983, nos 38 et ss.
نفس المراجع.
- Voir sur ce point , le père fondateur de cette notion reprise et consacrée par la jurisprudence du Conseil d’Etat, in, Maurice Hauriou, précis de droit administratif et de droit public, réimpression de l’édition de 1933, Paris, Dalloz, 2002.
- Voir, aussi,Nguyen Van Bong, Décision exécutoire et décision faisant grief, thèse Paris, 1960, p. 2 et ss.