أنا جئت إلى هذا العالم من الفقر، لكني لم أدرك سنوات القحط والجوع عندما أكل الناس لحاء شجر الصنوبر "السليخ"، لأني ولدت في سنوات الفيضانات والخير العميم، عندما كانت العتوقة تدخل حقل الخبيرة الذي يغمر قامة الصبي فننساها فلا تخرج منه إلا نهاية الربيع مع فراريجها، كان العسل من وفرته يتعتق في الأواني الفخارية لأعوام،
وعندما أصبحت صحفيا كنت قد ظننت أن مظاهر مثل الجوع في البطن قد انقرضت، إلا أني رأيته بعيني عام 1992 في أغنى ولاية بالخيرات في تونس: جندوبة، وما كنت لأراه لولا حرص الألمان على أن يروا بأنفسهم أين تم إنفاق أموال دافعي ضرائبهم في المساعدات،
عاد الوزير التونسي غاضبا لكننا في جرة الوزير الألماني الأشقر، بلغنا على الأقدام دواوير وقرى لا تعرفها إلا الملائكة من السماء، الخلاصة التي خرجنا بها وقتها: الفلاحة والحياة البدوية التي كانت على مدى قرون رمزا للغنى والعزة والاكتفاء والتكامل الغذائي أصبحت رمزا للشقاء والمحنة،
بعد ربع قرن من تلك الزيارة أصبح الوضع أكثر سوءا: يبيع الفلاح حليب بقرته بمائتي مليم للتر، البصل بمائة مليم للكيلو لكي يباع في تونس بدينار، نقله إلى السوق أكثر من ثمن بيعه، فتحت الدولة باب جحيم السمسرة وضيقت على باب الإنتاج،
انقرضت البذور الطبيعية التي لا تتطلب شيئا غير حب الأرض وعوضتها الدولة بالبذور المصنعة المستوردة التي تتطلب الكثير من الأدوية الباهضة، ازداد الأغنياء غنى وتردى الفقراء إلى المزيد من البؤس،
الآن أكثر من أي وقت مضى، أصبح البقاء في الريف محنة فيها الجوع والحرمان والجهل وخصوصا الاحتقار، التكدس في أحزمة الفوضى حول المدن الغنية أفضل، ذلك أن الدولة الوطنية راهنت على تفقير الريف وتجويعه،
هذه الدولة ليست لنا، لكن لم هي ضدنا
يتخلى المواطن الصالح عن أخذ حقه بنفسه معولا على الدولة في إقامة العدالة، إلى أن يأتيه مواطن زلاط يحمل زلاطا يهدد سلامته الجسدية من أجل دينار،
يقف المواطن السخيف الغبي المذكور أعلاه في المفترق محترما الضوء إل أن يظهر مواطن فوق القانون يحرق الضوء وكل أنواع الأولوية والقانون،
يدفع المواطن الفقير (الغبي) ضرائبه التي تقتطع مسبقا من أجره إلى أن يسمع أن جاره الكناطري الذي لا يدفع مليما للضرائب قد حقق "ضربة ميتة متاع ميتين مليون في الزيت"، وأن أبناءه يقضون عطلتهم في الباهاماس ليعودوا بعدها إلى الدراسة في كاليفورنيا،
يبيع المواطن السخيف منتوجه الفلاحي مقابل 200 مليم للكيلو ليجده يباع بخمسة أضعاف ذلك، فيفكر في المتبقي من الصبر قبل الانضمام إلى قوافل الغضب، متسائلا مثل من سبقه: أوكي، هذه الدولة ليست لنا، لكن لم هي ضدنا.