لازال الراسخون في علم التواصل والإعلام يحنون إلى أساليب وأدوات سنوات الحجر والتعتيم و تكميم الأفواه والتوجيه القسري، فهم يرون في إمتداد المعرفة وتبادل الأراء على نطاق أوسع، وتداولها بين أكبر عدد من الأشخاص تقليصا لنفوذهم وتعرية لأمراض الإحتكار المعرفي المتفشية في "مثقفي" العالم العربي والتونسيون خاصة.
فتراهم يشككون ويكذبون القنوات الأجنبية والعالمية والتي كانت صوت الثورة حين كان هؤلاء إما في جوقة المخلوع وإما صامتين تاركين الشعب يواجه جلاده وحيدا، ويسفهون المواقع الإجتماعية، وكتابها و جمهورها الذي إستعاضى بها عن الوسائط التقليدية. والمفارقة إنهم يعتمدون هذه المواقع للهجوم على أعدائهم أو من يفكر بغير طريقتهم.
هناك محللون سياسيون تقليديون، ربما عفى عنهم الزمن المتجدد وهربت عنهم لغة وخطاب السياسة المعاصرة، أو قل بتعبير آخر كسالى لا يتابعون مستويات التحليل السياسي، سواء في المدارس الفرانكفونية أو المدارس الأنجلوساكسونية التي مهما حاولنا مقاومة إغاراءاتها، ونحونا تجاه تشكيل خطاب سياسي تونسي أوعربي ينهل من عمق التجربة المحايثة بكل سلبياتها وغثاثتها، فإننا سنظل نستأنس بها ونتابع آخرمعطياتها وإجتهاداتها.
فأصحابنا لا يتنبهون إلى تطورات مناهج التحليل الجديدة المرتبطة بشتى إنفجارات العلوم. ربما لأنهم لم يطلعوا على تجارب الآخر التي إستفادت كثيرا من منهجية مختلف العلوم، سواء الطبيعية أوالفيزيائية أوالجيولوجية أوالطبية وغيرها كالتقنية والميكانكية، كما فعل مثلا ميشيل فوكو في جميع دراساته المتعددة والمتنوعة إلى درجة أن فوكو يتجاوز نفسه دائما بدءا بكتابه حول المؤسسة المراقبة والعقاب.
أو كتابات إحدى عتاة الكتابة السياسية حنا أرندت، أو تحاليل لوي التوسير أو كتب كارل مركس و نعوم تشومسكي، وغيرهم ممن أثروا حقول البحوث السياسية من منطلقات متنوعة ومتعددة.
ولم يتبعوا حركة التاريخ وتحولاتها، وتفاعلات كيمياء السياسة الدولية الراهنة، وإكتفوا بلغة الوصف، وياليته كان وصفا حياديا خصبا وغنيا ومستقلا يمنح صاحبه شساعة الرؤيا، وإمتداد أفق التحليل وعمق التفكير، بل هو وصف منمط حسير وضيق.
ثم يأتون ليقدموا للقارئ العربي مقالا نقديا حول الكتابات السياسية.
يكفي في تونس اليوم يا صديقي أن تنتمي لحزب ما لتنسف مصداقيتك ككاتب ومحلل و ناشط في المجتمع المدني، وترهن خطابك لمقص الرقيب الحزبي، وهو ما حذرت منه حنا أرندت وأيضا حذر منه لوي التوسير، حين وصفا الإثنان هذا الرقيب أو قل مجمل المكتب السياسي مجرد بيروقراطية إدارية مختبئة في ثوب السياسة.
لم يكن يوما السباب أو القدح أو الذم سبيلنا ومنهجنا، بل كان دافعنا هو محاولة الإرتقاء بالسلوك السياسي أولا و وعي المجتمع أساسا، والخروج من براثين البيع والشراء في الذمم، ولو إعتمدنا تحليل وحجة كل زعماء الأحزاب السياسية مثلا لأتخذنا نتائج الإقتراع معيارا أساسا لبصم وتفكيك الخطاب والسلوك السياسيين، لكن يكفي المحلل الرزين أن يدرك الفروق بين ما يطلق عليه فقهاء السياسة، الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التشاركية لنختار وجهة أخرى أكثر رحابة وموضوعية.
فالمشهد السياسي يعتبر محددا نهائيا لتحليل النتائج والمعطيات تحليلا علميا إجتماعيا وإقتصاديا ومعرفيا. وبذلك تبقى لنتائج صناديق الإقتراع في ظل ديمقراطية مخصية جزء بسيط من عملية تحليل السلوك السياسي بتونس الآن.
وقد أدافع عن أصحاب السباب والقدح من منظور طبيعي يتاخم حدود العلمية إلى درجات بعيدة، فالحنظل لن يقدم لك إلا طعما مرا، كما العوسج لن ينبت إلا شوكا، وماء البحر بطبيعته مالح. ورغم ذلك فإننا ندعو إلى محاولة الخروج من هذا التوريط المقصود والسمو بالرؤية السياسية والخطاب السياسي إلى مرتفعات أرحب وأوسع.