يبدو أنّ التربية و التعليم يحتاجان في بلادنا إلى تعريف قانوني يحدّد بدقّة الغايات من انتصاب مدارس و معاهد و صرف المجموعة الوطنية للمال من الميزانية العامة. فالتربية أضحت سرابا لا يمكن أن تجده في أي شبر من المدارس داخلها أو خارجها و التعليم هو بدوره يعاني من تخمة مواد و ترسانة ساعات حرقت عقول أبناء صغار و يافعين و شباب.
لا يمكن لأي متابع للواقع التربوي أن يتفاجأ من فراغ المدرسة العمومية من أداء وظائفها المعلنة، ولم تبق لها إلاّ دور الحاضنة. فالمتعلّمون يدخلونها اتّقاء المشاكل وليس نهلا من معارف يمكن ان تزوّدهم بها. هذا السّقوط إلى دور رقابي أحكم مشرفون سفلة على "فبركته" كي لا يجد "أولائك المشاغبون" الفرصة الوقت و التفكير في رجم صورة حاكم مستبد غاشم.
فصّل أولائك المشرفون ساعات دراسية تبدأ من 25 ساعة إلى 36 ساعة أسبوعيا. بمعدّل 6إلى 8ساعات يوميا. ونشطت "عبقريتهم" في جمع كلّ معرفة متروكة و مهملة و غريبة و مفلسة لا تراها إلا قراطيس يلف بها الحمّاص قلوب " بيضاء مستوردة". هذا التزويق المعرفي يجعل الغافل يعتقد أنه حرص على تعليم أبناء الحفيانة كل ما وصلت إليه عقول العلماء و اللغويين و المهندسين؛ ولكن لا يغنم منه المتعلّمون إلاّ نزرا بسيطا لا يتجاوز الأعداد و الترقية الأوتوماتيكية.
اعتمد أولائك المشرفون مسارين في تنظيم الزمن المدرسي و هندسة البرامج، و نشط المسار الظّاهر في التسويق لصورة سياسي يجعل الامتداد الأسبوعي لزمن التعلّم سابقة تاريخية في عالم المنظومات التربوية.
و أمّا المسار الخفي فهو إغراق زمن التعلّم في توزيعية زمنية خانقة تقتل في كلّ متعلّم الشعور بالرّاحة و الرّغبة في الترفيه و ممارسة الهوايات. و أمّا ما يتعلّق بهندسة البرامج فهي في المسار المعلن رائدة و منفتحة و في المسار الخفي قتل لكل البنى الذهنية البكر بالحشو و الإطناب و التكرار و الاجترار. فتجد متعلّما يلهث وراء المواد و معارفها و لا يحصّل منها إلاّ الشقاء.
إذا كان من حقّ السّياسي المستبدّ أن يحمي عرشه بكلّ الوسائل التي تمنع من الوصول إليه، فإنه ليس من حقّه أن يقتل حبّ الحياة للمتعلّمين. فعرش السّلطة رهيف لا يمكن أن يصمد في حالتي الجهل أو العلم و أمّا الأولى فهي تخرّب كلّ مظاهر الحياة و قد تكون الثانية مؤسّسة لحياة جديدة.
اليوم يطوفون و يدورون لإخراج إصلاح تربية جديد، هذه المرّة العرش السياسي لم يعد قادرا على فرض شروطه "نظريا" و هي فرصة كلّ وطني أن يبدأ تسطير إصلاح يقدر به الشعب على القطع مع الأمية و الجهل و العنف. و يضع قدما قويّة في سلّم الدّول الرّأغبة في التقدّم و الازدهار.
ربّما لا يمكن النّجاح في مشروع تربوي عصري مدني دون الاستناد إلى القوانين، ولعل تعريف التربية و التعليم هما من أوكد البدايات. فماذا نعني بالتربية ؟هل هي زينة نضعها في واجهة المدرسة أم تطبيق عملي سلوكي و نفسي و حضاري ؟ هل التعليم هو جمع شتات معارف غير صالحة أم هو بحث متجدّد لمعرفة يتزوّد بها الفرد من أجل رفعته الذّاتية و المواطنية.
هي أسئلة تبحث عن رسل في ثوب بشر يكون ولاؤهم لوطنهم و حضارتهم أسمى من التقيّد بحوافر سلطان أبكم أصم أقرع لا يهمّه إلا جرائب البشر كي يعيث في أجسادهم تدميرا و قتلا و تحقيرا. التربية و التعليم هما شرف الإنسان في بلد غابت عنه ضمائر الخلاّن.