من أجل نظام اجتماعي عادل

Photo

هو تحوّل جوهري لفئات شبابيّة من ذاتيّات خاضعة ومستلبة إلى ذاتيّات فائقة وبطوليّة، بوصفها جزءًا من الطّائفة المنصورة الموكول لها تحقيق العود الأبدي الموعود لزمن التمكين والسطوة المنقضي، تبعاً لنموذج تأويلي مؤسطر لتاريخ القرون الثلاثة الأولى من الإسلام.

ومن لدنّ هذا النموذج، تشكّل هذه الفئات من الشباب سرديّات هوويّة تصير عبرها ذواتاً فائقة، تكتسب تفوّقها المتخيّل من التفوّق المثالي لأيقونات نموذجها المؤسطر، فكأنّها سرديّات محبوكة على طراز "سِيَر تُعيد سِيَر الصالحين الأوّلين من السلف الصالح" في زمن الإخضاع والاحتقار والإذلال الحاضر.

فالعالم الاجتماعي، يُمثّل بالنسبة إلى فئات واسعة من الشباب التونسي، بفعل الهشاشة الاقتصاديّة وانحصار دوائر الإدماج وتعطّل إواليّات الصعود الاجتماعي وموروث الاستبداد السياسي الكاسح، كليّة ساحقة يختبرون تحت وطأتها نفي الاعتراف في شكله الجذري، إلى حدّ أن يصير "عالماً لا يقدر فيه على البقاء سوى البطل. حيث يغدو الانضمام إلى الفيالق الجهاديّة والدفاع عن إسلام "قويّ وقاهر" نمط بقاءٍ، ووهماً هستيريّاً بالاندماج ضمن فضاءٍ يحمي ويرتق نرجسيّة مفتوقة".

إلاّ أنّه "بطل سلبي" بتعبير فرهاد خوسروخوفار، أي أنّ بطولته ليست بطولة إيجابيّة تتأتّى من سعيه إلى الاندماج في المجتمع والنجاح ضمنه ونيل تقديره الإيجابي، بل بطولة سلبيّة تتأتّى من سعيه إلى إخضاع المجتمع لإرادة تفوّقه، عبر إرهابه.

لذلك، فإنّه كلّما زاد كره المجتمع له، كلّما تعزّز إحساس البطل السلبي بالتفوّق، بحيث لم يعد هذا الكره يمثّل في نظره علامة نبذ وإقصاء وتحقير، بل علامة مفاصلة تؤكّد تفوّقه على المجتمع الذي حقّره سابقاً. وصراع البطل السلبي ليس صراعاً من أجل الاعتراف، أي من أجل استعادة مكانته المعنويّة المسلوبة ضمن النظام الاجتماعي المحقّر له، بل صراعاً من أجل التفوّق المطلق ضدّ هذا النظام.

وبعبارة أخرى، فإنّ البطل السلبي لا يبحث عن "نيل الاعتراف من هيئة الاعتراف العليا القائمة…، بل إلى تنصيب نفسه كمانح أعلى للاعتراف…، ينبغي على الآخرين انتظار اعترافه وتلمّسه منه"، وهو صميم ما يعبّر عنه مقطع دالّ من شهادة أنس، حين يصرّح: "أنا أبغي الموت بعد الإثخان في العدوّ، فإمّا أن أقتل أنا، أو يُسَلّم هو أمره".

منذ اندلاعها في ربيع سنة 2011، ما يزال مسار الثورة التونسيّة مستمرّاً عبر نضالات طيف واسع من الحركات الاجتماعيّة والمدنيّة الشبابيّة التي تشكّلت في خضمّها. ورغم اختلاف رهاناتها وديناميّاتها وفاعليها، فإنّ هذه الحركات تشترك في مطلب أساسي يُشكّل رابطاً يصلها أفقياً ببعض، وهو الكرامة باعتبارها الشكل الأوّلي من الاعتراف السياسي المؤسّس للمواطنة.

ولعلّ الرهان على دعم هذه الحركات الاجتماعيّة وتجذيرها مجتمعيّاً في صراعاتها من أجل الاعتراف والإدماج والمواطنة، قد يدعّم قدرتها على حشد فئات الشباب المقصيّة والمذلولة ضمن تحوّلات جوهريّة نحو ذاتيّات مواطنيّة، وتطرح عليها أطراً وخطابات تتوسّل النضال ديمقراطيّاً ومدنيّاً من أجل نظام اجتماعي عادل، عوض أطر وخطابات الحركات الجهاديّة المتطرّفة.

وقد يكون ذلك خياراً في النضال السياسي يطرح على الشباب بديلاً مواطنيّاً عن التطرّف، كما يناضل في الآن نفسه من أجل تغيير النظام الاجتماعي القائم المساهم في إنتاج شروط التطرّف.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات