ردا على عريضة الخمسين : أين هي الأمانة العلمية يا أيها المؤرخون الجامعيون ؟

Photo

من يطلع على العريضة التي أمضى عليها خمسون من مدرّسي التاريخ، وصدرت بجريدة المغرب يوم 10 أفريل الجاري، يدرك خروج السجال عن دائرة المعرفة والبحث العلمي، إلى دائرة أخرى بعيدة عن الوظيفة الأكاديمية بما جعل العريضة تصب في آخر المطاف في الاصطفاف السياسي كما هو واضح،

أضف إلى ذلك خروج العريضة عن موضوع وثيقة الاستقلال لينتهي أصحابها إلى التساؤل حول مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات التي لسنا في حاجة للتذكير بما قامت وتقوم به من أجل تاريخ تونس والمغرب العربي وحفظ الذاكرة الوطنية.

دون أن نغفل أن عددا هاما من الممضين على العريضة هم من المختصين في التاريخ القديم والوسيط وعلم الآثار والتراث وليس لهم بالتالي أدنى اطلاع على التاريخ المعاصر، دون أن نغمطهم حقهم في الموقف السياسي الذي اختاروه لأنفسهم.

في المنطلق لا أريد أن أدخل في مهاترات بيزنطية مع جريدة المغرب التي غيبت كل أنشطة المؤسسة المختلفة من مؤتمرات ولقاءات الذاكرة الوطنية الأسبوعية واختارت أسلوب التعتيم ودخلت كذلك على خط التشويه الممنهج ولم تلتزم بالحيادية بوضعها عناوين هستيرية في الصفحة الأولى حول البيان الذي نشر بتاريخ 10 أفريل 2018.

إن تطور علم التاريخ عرف خلال العقود الأخيرة تحولات معرفية عميقة جدا بتوظيف علوم أخرى لتكون مكمّلة له مثل علم القانون وعلم النفس والعلوم الاجتماعية والأنثروبولوجيا ومختلف روافد التراث الشعبي والأثري والتي تم توظيف شهادات الفاعلين والقيادات الشعبية المغيبة في تأثيث مسارات الحركة الوطنية وصولا إلى تاريخ الزمن الراهن.

إلا أن الملفت للانتباه أن نص العريضة لا يعكس مواكبة لهذه التحولات العميقة، فترى أحدهم يعطي نفسه اختصاصا لم يمنحه له أحد، خاصة إذا راجعنا ما نشره من أبحاث لا علاقة لها بوثيقة الاستقلال.

والحقيقة أن عريضة الخمسين قد تضمنت إشادة بأنشطة مؤسستنا التي اهتمت بجمع شهادات الذاكرة الوطنية، وأننا قد ساهمنا في التعريف بـ"المؤرخين الشبان"، ودون الوقوف عند مفهوم المؤرخ، وما إذا كان ينطبق كما ورد في العريضة على المبتدئين من الباحثين، فإن تلك الإشارة كانت تهدف إلى محاولة المس والتشكيك في محتوى ومستوى منشوراتنا، إلا أن ما تناساه محرّرُ العريضة هو أن حوالي العشرين من الممضين عليها كانوا قد نشروا أبحاثهم لدينا، بعد أن تجاوزوا سن الشباب، واستعملوا تلك الأبحاث في ترقياتهم المهنية، وفي ملفاتهم للتأهيل الجامعي.

أما الإدعاء بأني مهتم بالتاريخ العثماني والموريسكي وأن مجال تاريخ الحركة الوطنية مجال آخر يختلف تماما عن مضامين تاريخ الحركة الوطنية، ألا بئس هذا التفكير الساذج. ودون التذكير بكتبي وأبحاثي في التاريخ المعاصر عن يوسف الرويسي والحبيب بورقيبة وغير ذلك من المواضيع، فإن هذه المآخذ كان يمكن قبولها لو كان الممضون جميعا من المهتمين بالتاريخ المعاصر، وليس بينهم مهتمون بالتاريخ القديم والوسيط أو حتى علم الآثار والتراث، وهم في كل الحالات يبدون غير مواكبين لحركية البحث التاريخي وإنتاجاته، ويكفي التذكير هنا بشارل أندري جوليان، وشارل روبار أجرون وجاك فريمو وغيرهم من المؤرخين الفرنسيين الذين يهتمون بالعهدين الحديث والمعاصر على حد السواء.

لقد آمنت –ولا زلت- بفضيلة العمل لإشعاع بلادنا العلمي بعيدا عن تصفية الحسابات والحقد الدفين الذي لازم هؤلاء المؤرخين الجامعيين ممن ساروا على خطى أسلافهم الذين لم يغفروا لي هذا النجاح العلمي المغاربي والعربي والدولي، عبر إنشائي لمؤسسة بحثية خاصة، وهنا وجب التأكيد على أن مستقبل البحث العلمي يجب أن يكون خاصا أو لا يكون، فالمؤسسات البحثية الحكومية تدار بعقلية "البيليك" وانتزعت من أصحابها الحس الدفين للدفاع عن المصلحة العامة.

أما الادعاء بعدم وجود هيئة علمية تشرف على منشورات المؤسسة، فهذا كذب وافتراء، لأن المجلة التاريخية المغاربية مثلا قد ضمت منذ إنشائها سنة 1974 عددا من المؤرخين التونسيين والدوليين، بل كأن البعض من الممضين على العريضة لم يسبق لهم أن تلقوا تقارير حول البحوث التي وجهوها للنشر في المجلة التاريخية المغاربية،

وفيهم من سبق أن طلبنا منه تقييم بحوث تهم ميدان اختصاصه، وعلى أية حال فإن لمجلتنا هيئة استشارية ضمت عددا من الأسماء المعروفة على الساحة البحثية الجامعية أمثال : د. مصطفى كريم، د. جمال قنان (الجزائر)، د. عبد القادر زبايدية (الجزائر)، د. خليل الساحلي أوغلو (تركيا)، د. فتحي ليسير، د. محمد ضيف الله، د. سنية التميمي، د. امحمد بن عبود من تطوان...

ولا يمكن أن ينشر أي بحث إلا بعد موافقة الهيئة الاستشارية التي سبق أن رفضت وترفض نشر عديد البحوث الواردة عليها وبعضها من الممضين على العريضة نفسها أو حوّرتها تحويرا جوهريا، وأرشيف المؤسسة شاهد على ذلك. في المقابل أليس الأجدى أن يطرح هؤلاء على أنفسهم ما الذي يجعل مجلة "Les Cahiers de Tunisie" مثلا التي هي في عهدتهم، لم تحافظ على استمراريتها ولا انتظام صدورها ولا الحفاظ على مستواها الأكاديمي، رغم أن عدد الممضين قد تجاوز الخمسين وفيهم من تولى رئاسة تحريرها أو هو عضو في هيئتها العلمية؟

أما القول بأن مؤسستنا خارجة عن المساقات الجامعية، فهذه مقولة سخيفة لأن الأمر لا يتعلق بالتبعية إلى وزارة التعليم العالي، وإنما الأصل في الأشياء اعتراف المجتمع العلمي الدولي وهو ما يعتبر أحد مقاييس ترتيب الجامعات في العالم، ويحق هنا أن نتساءل عن مدى إشعاع مؤسستنا وإشعاع الممضين على العريضة ممن يطلقون على أنفسهم مؤرخين، ويكفي أن يعودوا إلى المقارنة بين إسهامنا شخصيا وإسهاماتهم عبر محركات البحث العلمي.

كلمة أوجهها إلى هذا الجمع من مدرّسي التاريخ لأؤكد لهم من جديد أننا سنواصل رسالتنا على الرغم من المواقف الاعتباطية المناهضة، وليتأكد البعض منهم أني سوف أبقى أحترمهم رغم تأييدهم لعريضة يبدو أنهم لم يطلعوا على محتواها مباشرة !

وإذ أجبرت هذه المرة على الدخول في سجال لا أرتضيه لنفسي ولا لغيري، فلن أستجيب مستقبلا للرد على ما يمكن أن تثيره لدى من يستهويهم السجال. وآمل أن تكون رسالتي قد وصلت للجميع وسوف نبقى نواصل أداء دورنا العلمي، رغم هذه الحملة. "وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ …"

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات