مذكرات استاذ مادي وساقط !!!

Photo

كان أول تعيين لي في التعليم بمعتمدية محافظة من الوسط تحكمها التقاليد والخوف من كلام الناس..ذات يوم فوجئت بغياب تلميذة كانت مثالا للإنضباط والمواضبة على الدروس رغم مستواها المتوسط.

ولما سألت زملاءها بالقسم أخبروني أن والدها منعها من الدراسة بسبب أحد الشبان الذي كان يحبها ويرجو الزواج منها رغم رفضه من طرف عائلتها.. قلت: ما ذنب البنت في هذا حتى وإن أحبته؟ أتسجن في غرفة وتحرم من التعليم بسبب الحب؟ أثرت الموضوع مع زملائي من أبناء المنطقة فكان ردهم أن لا أحد يقدر على مواجهة سلطة الأب في تلك المناطق..

لم أقتنع وصممت أن أذهب إلى ابيها بنفسي إذا انسحب الجميع.. لن يكرموا وفادتي بما انهم يعرفون سبب زيارتي لهم ولكني كنت مقتنعا بضرورة التضحية من طرف الأب الروحي إذا جانب رأي الأب البيولوجي الصواب.. أثار عنادي ضجة في المعهد والمقهى حتى بلغ مسامع الأب فأعادها إلى الدراسة قبل أن أذهب إليه قائلا لمن حوله: لن أخشى على سمعة ابنتي مادام استاذها مستعدا لمواجهة تقاليد مجتمعنا من أجل مصلحتها.. ومرت الايام ولم ارها بعد انتقالي إلى مدينة أخرى وسمعت انها لم تتزوج فتاها ولكنها أكملت دراستها..

وانتقلت إلى مدينة كبيرة بالوسط وعملت في احد اكبر معاهدها.. وذات يوم كنت أمر بين الصفوف متفقدا كتب التلاميذ.. مررت بجانب أحدهم فشممت عليه رائحة الخمر.. نعم، كان مخمورا داخل القسم.. والتلاميذ مراهقون مختلطون.. ماذا يمكن أن يحدث؟ لو اعلمت الإدارة فمن الممكن أن تستدعي له الشرطة وقد يضيع مستقبله بسبب لحظة طيش لن يفهمها الآخرون..

غيرت خطة العمل وشغلت التلاميذ بتمرين ثم طلبت من التلميذ أن ينتظرني أمام القسم.. طلبت منه أن يجيبني بكل صراحة عن سبب لجوءه إلى الخمر لحل مشاكله.. تردد قليلا ثم أخبرني انه محبط لأن أباه رفض أن يشتري له دراجة نارية مثل أقرانه رغم اقتداره ماديا..

سألته عن ناصحه فقال هو أحد الأصدقاء.. قلت : لا تقل صديقي بل هو عدو لك.. هل تتخيل ما كان سيحدث لك لو عاملتك بالصرامة التي تستحقها على فعلتك الغبية؟ سوف تطرد من المعهد ولن يغفر لك ابوك عندما يعرف السبب ولن ترى الدراجة التي تريد.. اذهب الآن إلى الطاولة الأخيرة وتظاهر بالانشغال بالتمرين وفكر في نصيحة صديقك.. لم أكد اعرف الولد بعد ذلك اليوم.. صار من أفضل التلاميذ سلوكا.. سألته بعد مدة عن صديقه فقال لقد أصبحت اتحاشاه.. ممتاز. والدراجة؟ لقد اشتراها لي ابي بعد أن قرأ ملاحظتك عن سلوكي.. كلمة واحدة قد تغير مصير شخص..

ومرت سنوات.. كنت اراقب تلامذة الباكالوريا في الامتحانات التجريبية.. كان القسم يطل على الشارع وكنا في أيام الربيع التي يحلو فيها فتح النوافذ.. وفجأة تصرخ إحدى البنات.. لقد وقعت عليها بيضة.. نعم بيضة دجاجة رماها أحدهم من الشارع فبددت سكون القسم.. طلبت من زميلي أن يتكفل بمفرده بالمراقبة فيما اذهب لإعلام الإدارة بالأمر.. ضاع تركيز التلاميذ ولم يعد بوسعهم متابعة الامتحان..

نزلت فلم أجد من يصغي إلي.. قالوا لا سلطة لنا على الشارع.. أغلقوا النوافذ واستمروا في العمل.. مكاتبهم مكيفة ولا يعرفون الحر في قسم ممتلئ.. التلاميذ بالنسبة لهم أرقام وأسماء.. وبالنسبة لنا ذكريات ومشاعر.. خرجت إلى الشارع وتمعنت في وجوه الشباب.. شككت في أمر أحدهم فقمت بمباغتته من الخلف ولويت ذراعه فسقطت من يده بيضتان.. سحبته إلى الداخل وأغلقت باب مكتب القيم العام واشبعته ضربا..

ثم طلبت منه أن يكتب اسمه وعنوان بيته ورقم هاتف البيت.. فتحت الباب وأدخلت القيّمة التي خرجت مذعورة وقلت لها: لقد أخذت حقي وحق تلاميذي منه ويبقى حق المدرسة، لكم ان تاخذوه أو تفرطوا فيه..

ابلغي مديرك الذي لا سلطة له على الشارع أن بيانات الكلب الضال موجودة عندك.. وانصرفت ولا ادري ما فعلوا به بعد ذلك ولكن البيض انقطع عن زيارتنا منذ ذلك اليوم.. قد ناخذ يوما تلاميذنا رهينة في صراعنا ضد الظلم ولكنهم لن يخسروا ابدا بسبب ذلك وهم يعلمون أن لا أحد يفكر في مصلحتهم مثلنا ولا أحد غيرنا يلقي بنفسه للنار من أجلهم..

قد يرى البعض في هذه المواقف نوعا من التباهي وادعاء البطولة الموهومة.. ليس الأمر كذلك يا سادة..

أولادكم يعرفون من يمسح دمعهم عندما لا تجدون وقتا لذلك.. هم يعرفون من يسمع مشاكلهم عندما يخشون البوح باسرارهم لكم وينتظرون النصيحة لا التقريع.. هم يعرفون من يفتح صدره لهم دون أن يقول : انا مرهق من العمل وأريد أن ارتاح.. الاستاذ والد طول الوقت لا نصفه أو ربعه..

مرت قرابة 15 سنة ولم أنس تلميذي الذي انتحر أو قتل.. كان مضطربا نفسيا وكنت دائم الحديث معه ناصحا حينا مؤنبا أحيانا.. وكان يسمع نصحي ويخشى تأنيبي.. حتى كان ذلك اليوم المشؤوم.. كنت متجها إلى القاعة لأدرّس ذلك القسم بالذات.. ولمحته ذاهبا في اتجاه آخر.. وراودني الشك في عزمه على الغياب.. فكرت ان انهره ثم تراجعت عن ذلك حتى لا أحرجه أمام أقرانه وأنا اعرف حساسيته..

غاب يومها عن حصتي ولم يسمح له بالدخول بعدها.. وفي الصباح وجدناه ملقى على سطح إحدى القاعات بعد سقوطه من سطح العمارة المجاورة.. كل ما فكرت به هو اني كنت قادرا على منعه من الغياب.. ولم أفعل فحدثت الكارثة.. لم انسها على مر السنين..

هل تحس عائلته بنفس الذنب؟ هم يشعرون بالحزن حتما ولكنهم لا يشعرون بالمسؤولية.. لقد مات عندكم.. هذا ما يقولونه.. ارسلناه إلى المعهد ولم يعد.. لم يحملنا القانون اي مسؤولية وإنما حملناها نفوسنا يوم استلمنا الأمانة..

استاذ غير حاجب ولا معلق لوجوده خارج الوطن..

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات