في أول محطة له ببروكسال في اطار جولته الأوروبية التي قام بها هذا الأسبوع، أعلن رئيس الحكومة يوسف الشاهد أن تونس ستوقّع مع الاتحاد الأوروبي على مشروع اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق «الأليكا» في سنة 2019…
هذه الزيارة وهذه الجولة جاءت لإبلاغ الشريك الأوروبي استعداد تونس لاستكمال الجولة الثانية من المفاوضات التي كان من المفترض انعقادها يوم الاثنين الماضي 23 أفريل 2018 بعد توقف الجولة الأولى التي انعقدت في تونس يوم 18 أفريل 2016 عند مستوى عرض الجانب الأوروبي للمقترحات التي صممها البرلمان الأوروبي وفوض وفدا أوروبيا للتفاوض في اطارها.
التحرك الحكومي التونسي جاء تحت ضغط الجانب الأوروبي الذي عبر عن انشغاله من بطء مسار المفاوضات، ضغط اتخذ اشكالا أخرى غير ديبلوماسية وصلت الى اقحام تونس في قائمات سوداء مرة تحت عنوان الجنان الضريبية، ومرة ثانية تحت عنوان تبييض الأموال وتمويل الارهاب في الوقت الذي اعلنت فيه الحكومة عن شروعها في اعداد النصوص القانونية التي تعهدت بها في وقت سابق.
الشاهد قدم للبرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية وجها لبلد حقق نجاحات في مسار انتقاله الديمقراطي من خلال تركيز مؤسسات الجمهورية الثانية، كما حقق نجاحات في المجالين الاقتصادي والاجتماعي بفضل برنامج الاصلاحات الكبرى والضغط على عجز ميزانية الدولة الذي تراجع من اكثر من 6 % من الناتج المحلي الاجمالي الى أقل من 5 % منتظرة هذه السنة، وإصلاح الوظيفة العمومية والصناديق الاجتماعية.
الشاهد في لقاءاته مع المسؤولين الأوروبيين لم يخف تفاؤله بالآفاق الواعدة التي يفتحها مشروع «الأليكا» أمام الاقتصاد التونسي خاصة بعد مراعاة مبدإ عدم التكافؤ والتدرج في خارطة الطريق التي اعدها الجانب التونسي اثر المساعي التي قام بها الشاهد لإقناع ممثلين عن المجتمع المدني في تونس بايجابية توقيع مشروع الاتفاقية وذلك قبل توجهه الى الاتحاد الأوروبي.
تصريحات رئيس الحكومة في أوروبا اثارت استغراب عديد الأطراف في تونس من خبراء ومختصين يتابعون عن قرب مسار المفاوضات وعبروا منذ سنة 2012 عن قلقهم بخصوص :
1 ـ غياب مبدإ التكافؤ،
2 ـ غياب تفويض من مجلس نواب الشعب للوفد المفاوض باسم الجمهورية التونسية في هذه المفاوضات،
3 ـ تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي والمالي.
فجميع المؤشرات الاقتصادية والمالية للاقتصاد الكلي تروي قصة فشل ممنهج لكل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة وخاصة حكومة الشاهد. هذا الفشل الممنهج تجسد في ادارة الأزمات القطاعية وآخرها أزمة التعليم بعد أزمة الحوض المنجمي، وهذا الأسبوع أزمة المتقاعدين التي انضافت الى بقية الأزمات.
هذا الفشل الممنهج تجسد ايضا في الاحصائيات الأخيرة المتعلقة بعجز الميزان التجاري الذي فاق كل المستويات القياسية السلبية والذي انعكس على الاحتياطي التونسي من العملة الصعبة الذي بلغ 76 يوم توريد في ظل ادعاءات حكام تونس الجدد بتحسن الصادرات بالأسعار الجارية التي لا تراعي نسبة التضخم وانزلاق الدينار.
فرغم تراجع الاحتياطي من العملة الصعبة الى 76 يوم توريد والذي يعكس خللا هيكليا في ميزاننا التجاري بين الصادرات والواردات، تصر الحكومة على تحسن الصادرات وخاصة نحو الاتحاد الأوروبي وبالتحديد نحو فرنسا للتسويق لمشروع «الأليكا» مع جهات تونسية وأجنبية على أنه البديل الوحيد امام تونس للخروج من أزمتها الاقتصادية،بل تروج له بعض الأطراف على أنه تأشيرة تونس للعبور للحداثة والتقدم.
هذه الأطراف تعمدت الاختفاء وراء بحوث ودراسات موجهة ذات قيمة علمية ضعيفة لا تعتمد آليات البحث والتحليل المعمقة والدقيقة للترويج لحلم كاذب روجت لمثله في سنة 1995 وجنت منه هذه الأطراف الصفقات والمناصب، وجنى منه الشعب التونسي مزيدا من التفقير والتجهيل والتهميش والبطالة والموت والدمار في اطار منوال تنمية يقوم على التمييز الايجابي لفائدة الشركات غير المقيمة على حساب الشركات المقيمة بما ساهم في تهريب الأموال والارباح بصفة قانونية وخلف مآسي اجتماعية نتيجة افلاس الشركات المقيمة وعجزها على مواجهة المنافسة غير القانونية مع منتوجات اغرقت السوق الداخلية.
نفس هذه الأطراف احتمت اليوم بوجوه جديدة تواصل في ظل حصانة داخلية وخارجية مغالطة الشعب التونسي وأيضا الجانب الأوروبي بأرقام غير صحيحة وبحوث موجهة لدفع الجانب التونسي للتوقيع على مشروع لم ينظر فيه مجلس نواب الشعب ولم يمنح فيه تفويضا للوفد المفاوض باسم الجمهورية التونسية.
هذه الأطراف ووراءها الحكومة تدّعي تحسن الصادرات التونسية خلال الثلاثي الأول من هذه السنة للتسويق لإجراءات اتخذتها الحكومة والبنك المركزي للحد من التوريد لا ترتقي الى مستوى التهديد الذي يخيم على البلاد بالإفلاس بمعنى العجز عن تسديد الديون الخارجية باعتبار تراجع الاحتياطي من العملة الصعبة، تراجع عاش تداعياته المواطن التونسي بفقدان الأدوية في السوق الداخلية وعديد المواد الحياتية والأساسية والتي شهدت اسعارها ارتفاعا هاما كنتيجة لندرتها في السوق.
ان اصرار حكومة الشاهد على الاختفاء وراء احصائيات تتعلق بالتصدير كشف البنك المركزي خطأ طريقة احتسابها من خلال الدمج بين صادرات الشركات المقيمة والشركات غير المقيمة والتي تنشط في اطار المناولة وغير مطالبة باسترجاع مداخيل صادراتها، يؤكد على أن هذا الاصرار يراد منه اضفاء شرعية على مشروع اتفاق ظالم وجائر في حق الشعب التونسي الخاسر الأول والوحيد من اقامة منطقة تبادل حر شامل ومعمق، ويشمل كل القطاعات الصناعة والفلاحة والخدمات والاستثمار مع الاتحاد الأوروبي.
ان الصورة التي روج لها الشاهد لتونس لدى الاتحاد الأوروبي هي صورة تونس الافتراضية التي رسمها في مكتبه بالقصبة على ضوء استراتيجية تونس 2020، وعلى ضوء خارطة الطريق المنبثقة عن وثيقة قرطاج التي تستند الى برنامج الاصلاحات الاقتصادية والمالية لصندوق النقد الدولي، والتي لا نجد لها أثرا لا في الاحصائيات الرسمية، ولا في الواقع المعاش الذي يترجمه الحراك الاجتماعي المتوتر والذي دخل منطقة المجهول. وعندما اعترف الشاهد بمبدإ عدم التكافؤ بين الجمهورية التونسية من جهة واتحاد اوروبي يجمع 27 دولة تمثل 500 مليون مستهلك في المفاوضات حول مشروع «الأليكا» فإننا لا نشك للحظة انه يعي دلالات ما يقدمه وما يقوله خاصة عندما دعم هذا المبدإ بمبدأ ثان يتعلق بالتدرج في التطبيق.
وفي انتظار ارتقاء تونسنا الى تونس الشاهد كما قدمها للأوروبيين، لا بد ان يمر الوفد التونسي المفاوض عبر شوارعنا وبيوتنا ومزارعنا ومصانعنا ومدارسنا ومستشفياتنا وجامعاتنا وإداراتنا والاستماع الى أصوات الاستغاثة والنجدة لبلدهم الذي أغرقته برامج الاصلاح لصندوق النقد الدولي والشراكة مع الاتحاد الأوروبي في الديون الخارجية، وهو ما تؤكده الجلسات العامة لمجلس نواب الشعب التي يخصص اغلبها للمصادقة على مشاريع اتفاقيات قرض.
ـ أصوات تعالت صيحاتها لإنقاذ دينار تونسي من الاندثار بمفعول الانزلاق الممنهج والدوري بتوصية من صندوق النقد الدولي.
ـ أصوات تعالت صيحاتها لإنقاذ المواطن من الجوع والموت والجهل في ظل تدهور المقدرة الشرائية وتفاقم البطالة وتدهور الانتاج.
ـ أصوات تعالت صيحاتها لإنقاذ صناعتنا وفلاحتنا وخدماتنا من التوريد وتحرير المبادلات.
ـ أصوات تعالت صيحاتها لإيقاف تغول البنوك واستحواذها على قوت المواطن لتسديد قروض بنسب فائدة في ارتفاع ممنهج لسعر الفائدة المديرية للبنك المركزي ليصبح مهددا بفقدان بيته واستقراره.
ـ أصوات تعالت صيحاتها لإنقاذ شبابنا وأبنائنا من الموت في متوسط الموت.
ـ أصوات تعالت صيحاتها إلا انه في الأغلب لن تصل الى آذان الوفد التونسي الذي تحصن بمبدأي عدم التكافؤ والتدرج ليجلس على طاولة مفاوضات مع وفد يمثل 27 بلدا أوروبيا للتفاوض حول طريقة تسديد تونس لديونها الخارجية المتراكمة تجاه الدائنين، مشهد يذكرنا بتاريخ 5 جويلية 1865 تاريخ تكوين اللجنة المالية الدولية «الكومسيون» التي مهدت لفرض معاهدة الحماية على محمد الصادق باي في 12 ماي 1881 في قصر .