إن مسالة الانقلاب على جمعية القضاة تتجاوز بكثير المعطى الشخصي والجمعياتي مباشرة لتمس طبيعة النظام الاستبدادي الذي عرفته تونس في صلة بالقانون الأساسي المتخلف للقضاة والذي جعلهم تحت رحمة الإدارة تشردهم وتهينهم وتقودهم حيث تشاء وتستفرد بمن رفض الانصياع منهم إلى أوامرها في ظل صمت شبه كامل من قبل مجتمع مدني مغلوب على أمره في حين واجه القضاة الأحرار وحدهم الآلة الجهنمية التي عصرتهم.
قادتهم الى مؤتمرات الانقلابيين في ما يشبه الملهاة المأساة التي كانت تتجدد كل سنتين، تبتزهم وتؤلب بعضهم على بعض. لم يجد القضاة من حل وقتها غير عرض هذا الملف الخطير على أنظار العالم المتحضر حتى يقف قضاة العالم على حجم المأساة التي كان يعانيها مجموعة من رجال القضاء ونسائه،
كان كل ذنبهم أنهم طالبوا بانضباط جدير بالقضاة بما يقره دستور البلاد وقوانينها وما تؤكد عليه الأعراف والمواثيق الدولية. ولكن لا أذن كانت تصغي لصوت الحق والواجب مما أجبر القضاة ضحايا الانقلاب على أن يبحثوا عن الإنصاف لدى الهيئات الدولية المتخصصة .
وهو مثال آخر يجسد بكل المعاني الحرفية والرمزية عمق الشرخ الذي عاشته تونس قبل الثورة من خلال سلطة الحاكم القائمة على فصام الخطاب الرسمي المتبجح بأرقى صور الحداثة المعلبة والموجّهة للتصدير والذي عجز عن ستر سلوك سياسي يستعيض عن سلطة القانون بقانون سلطة لا تتحرج أن تنشر ضمن القضاة أنفسهم، حماة القانون، منطق الافتكاك والغصب والانقلاب.
وهكذا انقلبت الأدوار في ما يشبه التراجيديا المفزعة فأصبح القاضي ضحية في بلاده لا يجد من يحميه في حين كان يتعيّن أن يكون هو ملاذ كل ضحية، له يشتكي الجميع، وبه يقام العدل وتسترد الحقوق المغتصبة.
اليوم يفتح هذا الملف بكل أوجاعه في تونس لا في بلاد أخرى . تلك بعض ثمرات الثورة التي لولاها لظلت الحقيقة مقبورة إلى الأبد.