النّائب البلدي بين السّياسي و البلدي و الشّخصي : ورقة ضدّ التيّار …غير الدّيمقراطي !

Photo

اهداء خاصّ جدّا :

الى النّائب البلدي التونسي الوحيد الذي طلب رأيي المتواضع في الموضوع .

مقدّمة :

من باب النظر الى النصف المملوء من الكأس يمكن تسجيل الاعتزاز بتنوع تركيبة المجالس البلديّة على عكس الشعور بالانتصارية و بالانهزامية الحزبية الضيقة الذي يشعر به المنتصرون و المنهزمون معا.
بالنسبة لي ، وأقولها بكل وضوح :

اذا كان هنالك شيء ربحته تونس من هذه الانتخابات البلدية في اطار انتقالها الديمقراطي فهو التعدّدية البلدية نفسها رغم انني كنت أفضّل ألا تكون موازين القوى كما هي عليه الآن. و لكن طالما لا يبدو الأمر كذلك في خصوص الاعتزاز بالتعدّدية البلديّة عند العدد الأكبر من المتحزّبين تحديدا فان أخطاء كبيرة محتملة تنتظر المجالس البلدية المتشكّلة مّما يستوجب ثلاثة توضيحات منهجيّة عامّة على الأقلّ.

1-النائب البلدي والعمل السياسي :

المجالس البلدية ليست لا رئاسة الجمهورية و لا مجلس النوّاب و لا الشارع السياسي أو الفضاء العامّ السياسي و لكنّها لا تتناقض معهم .

البلديّة خاصّ من عامّ و محلّي من وطني و خدماتي مباشر من سياسي عام و هي بالتالي مجال لممارسة شكل من السياسة الصغرى المباشرة و الجزئيّة و المحلّية ضمن ما هو أشمل.

وأذا كان من غير المطلوب ألا يتناقض الخاصّ مع العامّ فانّه ليس مطلوبا بالتالي لا أن ينفصل عنه تماما فيناقضه و لا أن يخضع له تماما فيذوب فيه و يفقد صفته البلديّة .و هنا مربط الفرس في التجارب البلدية الديمقراطية أو التي تسعى أن تصبح كذلك.

باختصار، انّ التناقض السياسي العام بين الخصوم السياسيين ، و الذي يظهر في المشاريع السياسية و المجتمعية الكبرى ، لا يعني بالضرورة التناقض في كل شيء بما في ذلك تعبيد طريق أو تنظيفه أو كهربة حيّ أو تسهيل خدمات ادارية للمواطن أو غيرها.

هنا ، يوجد خطران :


أ- كثرة تسييس العمل البلدي بما يمنع من الاتفاق حتى على أبسط الخدمات البلدية المباشرة و يجعل من المجلس البلدي ساحة صراع فكري و سياسي عوض أن يكون خدماتيّا بالأساس و


ب- قلّة تسييس العمل البلدي بحيث ينفصل تماما عن المشاريع الكبرى للتيارات السياسية الكبرى فيفقد صفته السياسية المحلّيّة المندرجة ضمن السياسة الوطنية و يجعل من المجلس البلدي مجموعة محلّية منفصلة عن الأحزاب الوطنية و عن الشأن العامّ الوطني .

انّ النّائب البلدي الحقيقي الذي يسعى الى خدمة بلديّته دون أن يناقض حزبه السياسي أو توجهه الفكري هو الذي يراوح بين هذين النقيضين دون افراط و لا تفريط و بمرونة كبيرة أعرف انّها سهلة نظريا و صعبة عمليّا.

2- النائب البلدي و العمل البلدي :

انطلاقا مّما سبق يمكن مثلا التحذير مما يلي :

أعلنت بعض الأحزاب و الجبهات رفضها المبدئي للتحالف مع نداء تونس و مع النهضة . و هذا جيّد سياسيّا على أمل أن تحسن التحالف مع غيرهما و لا يصيبها التكلّس حتى تجاه بعضها البعض و أقصد هنا تحديدا اليساريين و الديمقراطيين الاجتماعيين و المستقلّين الحقيقيين - طالما بعضهم مغشوش – من ناحية . و على أمل أن يقع التمييز بين رفض التحالف السياسي في تشكيل المجلس البلدي وتحديد تركيبته الآن و بين رفض كلّ أشكال العمل البلدي المشترك في لاحق الأيّام من ناحية ثانية .

انّه من المشروع سياسيّا ، بل و من البديهي، أن يسعى كلّ حزب الى كسب رئاسة المجلس البلدي و الفوز بالأغلبية فيه و بعقد التحالفات التي تمكّنه من ذلك.

و لكن بعد ذلك لا يعود مشروعا بالمرّة المواصلة في الاصطفاف الحزبي على حساب العمل البلدي في حدّه المعقول الذي يمكّن من تلبية حاجيات المواطنين المحلّيّة.

هنا سيكون هنالك فارق بين العمل البلدي السياسي و لكن الموغل في المحلّية و بين العمل البلدي السياسي ولكن الموغل في الوطنية وحتى العروبية و الاسلاميّة والعالمية و ستكون المعادلة صعبة جدّا من حيث التطبيق و ليس من حيث التنظير رغم انّ البعض لا يبدو واعيا حتى بالبعد النظري في المسألة.

انّ الاختلافات السياسية الوطنية و العربية و الاسلامية و العالمية للأحزاب السياسية لا يجب أن تغيب و لا يمكنها أن تغيب. و لكنها لا يجب أن تعرقل القيام بكل ما هو ممكن بشكل مشترك في خدمة سكان المنطقة البلديّة . ستواصل الأحزاب التونسية الاختلاف حول 'المشروع المجتمعي' و حول سوريا و حول ايران و حول أمريكا و روسيا بالتأكيد.

ولكن اذا كان ذلك يعطّل اتفاقها الفكري و السياسي العامّ فانّه لا يجب أن يعطّل عمل مستشاريها البلديين المشترك الذين يعملون في قرية أو مدينة ما في تونس -على الأقل في حدّه المتوسّط ان لم يكن الأقصى - و الا قتلت كثرة التسييس العمل البلدي . ولكن ذلك لا يعني نسيان تلك الاختلافات السياسية داخل المجلس البلدي أو خارجه اذا تبيّن انّ لها علاقة ما بمهامّ البلديّة بحجّة التخصّص في العمل البلدي الخدماتي المحلّي.

انّ الاختلاف السياسي بين الخصوم لا يعني كون الخصم يجب أن يرفض كل ما يقترحه خصمه و يعارضه فيه و يسعى الى عرقلة تنفيذه بقطع النظر عن محتواه و فائدته لسكّان البلديّة. في الدّول الديمقراطية يحدث هذا حتى في المستوى الرئاسي و التشريعي فما بالك في المستوى البلدي .و في بعض تجارب الانتقال الديمقراطي حدث ذلك في كلّ المستويات الرئاسية و الحكومية و التشريعية و البلدية.

و أكبر دليل على ذلك تجربة جنوب افريقيا حيث عيّن نيلسون مانديلا بعد انتصاره الأول في الرئاسيات الأولى غريمه فريديريك دوكليرك نائبا له و شرّك بيتر بوطا زعيم العنصريين البيض في الحكومة و كذلك فعل مع بوتوليزي منافسه الأسود و تولّى القسّ ديسموند توتو مهمّة الاعتراف و المغفرة والمصالحة بين الفرقاء لاخماد الأحقاد العنصريّة...

وما حصل بين التونسيين لا يمثل واحدا بالمائة مما حدث يسن الجنوب- افريقيين. و لم يلغ ذلك الصراع بينهم بل نظّمه و ارتقى به لصالح شعبهم لا غير حتى لا يفهم البعض انني أدعو الى ما يشبه 'اليسوعية السياسية' التي يعطي بمقتضاها المهزوم الانتخابي خدّه الآخر لهازمه بعد أن تلقّى صفعة منه على خدّه الأوّل.

أمّا الذين يعتقدون ان العمل البلدي هو مجرّد منصّة للتحريض و التشهير السياسي أو للدّعوة الدّينية لمواصلة رحلة الثورة اليسارية أو الاسلامية أو القومية و الذين يعتقدون - من مسخ الليبيراليين- ان البلدية يجب أن تواصل دورها في خدمة المتنفّذين المحلّيين بل و المافيا الوطنية و افراغ الديمقراطية من كل عمق اجتماعي يخدم عموم الشعب ، فكلّ هؤلاء لا يعون بعد ما وقع في تونس من جهة التعدّدية و الحرية من ناحية ، و سيكتشفون قريبا صدى خطاباتهم الثورية و خطبهم الوعظية و نتائج ممارساتهم المافيوية و هم يواجهون أبناء قراهم ومدنهم الذي كسروا جدار الخوف و القهر و مستعدّون لقبر الفساد المستشري سياسيا على الأقل ان لم يقدروا عليه اقتصاديا و اداريا و قضائيّا كما بيّنوا ذلك في عزوفهم و في تصويتهم العقابي الحالي .

3- النّائب البلدي و البعد العلائقي الشخصيّ :

رغم وجود أمثلة تونسية عن تحسّن العلاقات الشخصية بين متنافسين سابقين للرئاسة ) السبسي و الغنوشي) و متنافسين سابقين للتشريعية وصل الى حدّ زواج نائبين من حزبين متصارعين ) الرفيق نبيل العلوي من الجبهة الشعبية و زوجته من نداء تونس( فانّ الأمر في المجالس البلدية قد يكون أكثر عمقا و غصبا عن المستشارين البلديين و أحزابهم ربّما... و لكن يا ليته يصبح أمرا و اعيا بما يخدم سكان البلديات و يخدم الحياة السياسية بكاملها في تونس.

انّ العمل البلدي يتميّز بما يسمّى الجيرة و القرب سواء بين النواب البلديين أو بينهم و بين سكان دائرتهم البلديّة. و هذا الأمر ، بسبب تعدّد تركيبة المجالس البلدية ، سيخلق فرصة تاريخية كبرى للاختلاط بين مناضلين كانوا لا يتقابلون الا في صفوف متقابلة و متصارعة في الساحات العامّة . و هذا الأمر سيحقّق حتما ما يلي :


- اكتشاف البشر لبعضهم بشكل مباشر بعد أن كانوا ينظرون الى بعضهم كنماذج بشريّة نظرية للخصم السياسي لا غير.


- فرز البشر ليس فقط على قواعد سياسية عامّة بل أيضا على قواعد أخرى قد تكون ايجابية مثل النزاهة و الانضباط الوظيفي و الالتزام الأخلاقي-السياسي الشخصي و قد تكون سلبية مثل الفساد و التقاعس و الانحراف...و هؤلاء و أولئك يوجدون في 'أحسن العائلات' التونسية السياسية و غير السياسية جميعها دون استثناء .


- خلق فرصة تاريخية لتقاطعات جزئية حالة بحالة - في البداية - بين مناضلين لم يكونوا يتوقّعون يوما حصول ذلك بينهم. و هذا سيؤدّي في المدى الطّويل الى تشابكات قاعدية جديدة بين البشر ستؤثّر حتما على التصوّرات السياسية العامّة التي كانت الأحزاب تعطيها لهم عن خصومهم ممّا قد يعطي لتونس جيلا جديدا من الديمقراطيين المتجاورين في قاعدة الهرم السياسي و قاعدة الماكينات الحزبية يحصّن البلد من العنف و الاقصاء و الحرب الأهلية التي قد تنخرط فيها بعض القيادات لا سمح الله و التاريخ.


- وعزل محترفي المساندة و المعارضة الصبيانية الشعاراتية من خلال مهام يومية بسيطة يراها الجار في العمارة و الحيّ و القرية و المدينة و كشف الفاسدين مهما كان لونهم السياسي رغم كون الفساد أنواع و درجات و ليس موزّعا بالتساوي كما يريد أن يوهم من هم في السلطة الآن أو من فقدوها بسببه في السابق.

و هذا سيفرض على كلّ الشرفاء في المجالس البلدية،اضافة الى التزاماتهم السياسية، تدوير الزوايا في البداية مع زملائهم الشرفاء ثم تعديل نظرتهم الى السياسة اصلا بحيث تتأنسن فلا تعود لا يوطوبيات دنياوية و لا جنان خلد أخروية تتحقق بقتال الملائكة للشياطين السياسيين بل 'فنّ الممكن' - و لكن النّبيل ما أمكن- من أجل خدمة الأحياء من البشر و الذين سيولدون بدءا بالقرية و المدينة و صولا الى الوطن بكامله.

خاتمة :

قال الفيلسوف اليوناني أبيقور : " يمكن أن نحصل على الأمان ضدّ كلّ ما هو أجنبي. و لكنّ الموت يجعل منّا جميعا ، نحن البشر ، نسكن مدنا بلا حصون ."

و قال داهية الحزب الاشتراكي الفرنسي ميشال روكار ذات يوم : " السياسة هي خدمة الأحياء ."

و سيكون من الذكيّ فهم ذلك تونسيا - تحديدا- بمنطق دعوة المستشارين البلديين التونسيين الى تذكّر الموت و هم يقومون بواجباتهم عملا بالقول الشعبي " الدّنيا فيها الموت " الذي يستعمله التونسيون بمعنيين : للتخويف من الموت مرّة و للدعوة الى الحياة و الفرح مرّة ثانية .

ولكن سيكون من الأذكى فهم ما سبق مع تذكّر كون الشعب التونسي قد أفاق من موته السياسي الأصغر زمن التسلّط و هو يقبل على الحياة السياسية بالتدريج و له القدرة على قلب الطاولة على الجميع بالانتخاب و حتّى بالشارع.

هذا طبعا ان كنّا نحفظ ونفهم و سنعمل بقول هيراقليطس اليوناني ايضا :
" دافعوا عن عقولكم كما لو كنتم تدافعون عن حصون مدينتكم ."

و هذا حتى لا يقال فينا وراء أبي العلاء المعرّي :

" يسوسون الأمور بغير عقل... فينفذ أمرهم و يقال ساسة

فأفّ من الحياة و أفّ منّي ... و من زمن رئاسته خساسة. "

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات