لم يكن الوقت ليلا ولا هو الصباح الباكر، وإنما السابعة صباحا من يوم السبت، أمس 26 ماي. كانت لي جولة في مدينة تونس العتيقة، حملني إليها وصولي الباكر إلى الأرشيف قبل ساعة من موعد فتحه.
فتقدمت لتمضية الوقت إلى نهج باب علوج ثم سلكت أمتارا من نهج باب سويقة ثم أدلفت إلى نهج الباشا مبتعدا عن السيارات القليلة التي يتثاءب أصحابها وهي تتقدم بهم نحو النفق.
نهج يكتنز التاريخ، الحركة الوطنية مرت من هنا، هذا معهد نهج الباشا الذي تجاوز عمره القرن، وقبله نهج غرنوطة، ونهج القلش، وأنهج وأزقة يصعب عدها أو رصدها تغطي أجزاء منها صاباطات، وتتزاحم على جانبيها دكاكين ومخازن ودُور بشرفاتها وأبوابها الملونة والمرصعة بالمسامير، جمال مخفي لا تصل إليه أعين الناظرين في غير هذا الوقت، في غير اللحظة التي مررت فيها بها، معالم تاريخية لا حصر لها، متحف في غير حاجة إلى ترتيب. هذا عبق التاريخ.
هذه دار بن عاشور، وهذه ساحة رمضان باي تكاد تردد صهيل الخيل الذي مر من هنا، ودار حمودة باشا، والمدرسة الصالحية، أكاد أسمع من خلف الباب سكانها من الطلبة الزيتونيين، وهذا مقام سيدي بن عروس، بدون زواره من السياح والمتبركين أو المتطفلين.
وهذه زاوية صوفية فيما يبدو من بابها المطلي باللون الأخضر الغامق، وما كتب على خديه بنفس اللون بخط مغربي مبسوط، أقوال مولانا جلال الدين ابن الرومي أو ما نسب إليه. أنت لست نقطة في محيط أنت محيط في نقطة. حين تعثر على الجمال في قلبك ستعثر عليه في كل قلب. لو أن صوتك قابل للعناق. ما تسعى إليه يسعى إليك. ما لمس الحب شيئا إلا وجعله مقدسا. لو زال منك الأنا لاَحَ لك مَنْ أنا..
أي بهاء عندما تكون وحدك في الطريق الذي كان الطريق الرئيسي في مدينة تمنحك عصارة ما راكمته وأنتجته أو هضمته في تاريخها المديد، لمسات البنائين والنجارين والحدادين وترانيم المتصوفة وتراتيل الطلبة وصهيل الخيل وزغاريد النسوة وأهازيجهن هنا دفعة واحدة.
وهذي الأسواق سوق العطارين وسوق القماش وسوق الصوف وسوق الترك وسوق البركة وسوق الباي. جميعها خالية تماما، سوى من بعض القطط الهادئة، مدينة بدون زحام، منزوعة من كل ما يوضع على واجهات الدكاكين والطقطقات على أطباق النحاس ومراودات التجار، والعربات المجرورة وأكداس البضائع والحرفاء والمتطفلين والتائهين والمارة إلى الجانب الآخر من المدينة.
لا شيء من ذلك هنا. وحدك هنا. أي دعاء صباحي مستجاب وصلني هذا الصباح حتى وصلت هنا بدون سابق تخطيط، إلى حيث تبرز أقوال مولانا ابن الرومي على جانبي باب الزاوية ذات الباب الأخضر: قلوب العاشقين لها عيون ترى ما لا يراه الناظرون.