لمّا باغتنا الأستاذ محمّد الحبيب (شُهِر: أبو يعرب) المرزوقي –في إطار تدوينة نشرها على إحدى صفحات التّواصل الاجتماعي يوم 25 ماي 2018- بقوله: "أعْتقد أنّه من واجب كبار المفتين أن يفتوا بأنّ الزكاه هذه السّنة يحلّ صرْفها في ودائع في بنوك تركيا واسْترْداداها لصرْفها في وجوهها (البقرة، 177) بعد سنة عندما تفْشل المُؤامَرة وتخْرج تركيا مُنْتَصرة من الرّهانيْن الحاليّيْن: الانْتخابات أوّلاً، ثمّ المُهْلَة الضّروريّة لاسْترْداد قوّة العمْلة"، فإنّه مُطالَبٌ بتوضيح ما نُسب له في هذه التّدْوينة.
لأنّ المأخذ لا يتعلّق فقط بكوْن الزّكاة (والمنزع السّلفي واضحٌ من خلال رسم الأستاذ المرزوقي لهذه الكلمة كالآتي: "الزكاه"، أي بتاء غير منقوطة، كما دأب عليه ناسخو القرآن الأوائل) مستحقّة -فضلا عن الآداءات المُتخْلَصة من القائمين على شأن هذه البلاد- من المواطن التّونسيّ، فذلك أمرٌ خاصّ بكلّ مسلم -أو غير مسلم-، ولكن بإقراره المُبطّن أنّ الدّولة التّركيّة هي الدّولة الإسلاميّة الوحيدة التي يمكن أن تستأمن على أموال المسلمين، وهذا يُعدّ تنكُّرًا، بل أمرًا يتنزّل منزلة الخيانة العُظْمى، للوطن؛ وضرب من ضروب التّخابر والعمالة لفائدة بلد أجنبيّ. هذا فيما يخصّ مستوى التّوصيف الإجرائي.
أمّا على جهة النّظر التّأصيليّة، فإنّ استثناء الدّولة التّركيّة دون سواها من البلاد الإسلاميّة يُسْتَشفّ منه أنّ الأستاذ المرزوقي يتشبّث هاهنا بمذهب الخوارج إزاء الأمر الغالب (أي بلغة العصر: النّظام القائم)، وهو جواز الخروج على أولي الأمر في حال خذلانهم لمقتضيات الشّريعة. والعصيان المدني، المُتَمثّل هاهنا في الامتناع عن أداء فريضة الزّكاة للدّولة القائمة على أمر التّونسيّين، إنّما يتنزّل بهذا المعنى منزلة الخروج على أولي الأمر,
ولمّا كان الأستاذ المرزوقي يساوي بين دولة الشّيعة، علمًا أنّ السّلفيّة لا تميّز -فيما يخصّ مسألة جواز خروج المسلمين على الدّولة المارقة- بين الخوارج والرّوافض، ودولة إسرائيل، فإنّ ممّا يُستشفّ بالقياس من قوله أنّ الدّولة التّونسيّة وفق هذا المنظور لا تقلّ خطورة على مسلمي هذا البلد الأمين من الكيان الصّهيونيّ.
فممّا يستبين من هذا القول ليس فقط أنّ صاحبه سلفيّ المنْزَع، بل أنّ انتماء الأستاذ المرزوقي إلى المنزع السّلفي الوهّابي المُرتبط بدولة آل سعود في الحجاز، يلوح بارزًا للعيان من خلال ردّه على اعترض أحد قرّاء تدوينته سابقة الذّكر، حيث قال: "[إنّ] سقوط الخلافة هو الذي جعل كلّ بلاد المغرب مُسْتَعْمرات، ولو سقطت تركيا حاليًّا فستتقاسم إيران وإسرائيل بلاد العرَب". ولسنا نعلم مَن قسّم المسلمين إلى عرب وفرس، أي باعتبار العرْق والجنس، منزّلاً الأوائل منزلة المسلمين على جهة الحقيقة والآخرين ضمن زمر الضالّين المارقين عن الدّين الحنيف، عدا أتباع محمّد بن عبد الوهّاب من بين السّلفيّة.
أمّا ما ورد في قول الأستاذ المرزوقي من ضرورة إمهال الرّجل المريض سنة على الأقلّ قبل اسْترْداد أموال الزّكاة من الخزانة التّركيّة بقصد صرفها في وجوهها، فوجه سقمه أنّ هذا المريض الذي لم يتعاف بعد، وقد مرّ على مرضه أكثر من قرن، من الأرْجح ألاّ يتعافى، اللّهمّ أن يتخلّى النّظام التّركي عن أطماعه الاستعْماريّة وحنينه إلى الإمبراطوريّة العثمانيّة التي سقت الشّعوب الإسلاميّة الصّبابة. يوم يدْرك مَن يسوّق لتجديد عهْد حكم آل عثمان وبسْط نفوذهم على كامل أرض الإسلام، بل وإعْداد العُدَّة أيضَا لغزْو دار الحرْب، أنّ عصر العُثْمانيّين قد ولّى دون رجعة، أنّ الدّعوة لنصْرة الدّولة التُّرْكيّة التي هي هاهنا مرْفوقة بالإضرار بالمصالح العليا للوطن الأمّ، الجمهوريّة التّونسيّة، المستقلّة منذ 20 مارس 1956 والمنفصلة نهائيّا عن آخر الرّوابط المزعومة مع آل عثمان منذ 25 جويلية 1957.
فلئن سلّمنا للأستاذ المرزوقي بأنّ "الدّينار يمكن أن يسْتعيد قوّته بمجرّ أن تسْتعيد البلاد سلامتها الأمنيّة ووحْدة نخبها السّياسيّة"، فلن يكون ذلك خدمة لأيّ طرف أجنبيّ، بل لعزّة وسؤدد هذا البلد الأمين.