من المُتعارَف عليه أنّ الجمهوريّة التّونسيّة تفرد يوم 15 أكتوبر من كلّ سنة لإحياء ذكرى شهداء تونس في حرب الجلاء، إلاّ أنّ ما هو بمنزلة المسْكوتٌ عنه أنّ مطلب الدّولة التّونسيّة آنذاك لم يتوقّف عند حدّ إجلاء قاعدة بنزرت العسكريّة من القوى الفرنسيّة فحسب، بل أنّه شمل أيضًا استرجاع كلّ الأراضي التي ضمّها المحتلّ الفرنسي إلى مستعمراته الجزائريّة بداية من سنة 1826 م –تاريخ احتلاله للجزائر-.
فمنذ تاريخ 5 فيفري 1959 توجّه بورقيبة رسميًّا إلى فرنسا –التي كانت لا تزال تحتلّ الجزائر- بـمطلب "تصحيح" الحدود الغربيّة لتونس وإلغاء الحدود الموروثة عن الحقبة الاستعماريّة. ولا يقتصر الأمر على النّقطة 233 -التي تنازل عن ملكيّتها التّونسيّة الرّئيس الأسبق زين العابدين بن عليّ، في إطار صفقة مشبوهة ضمّت الرّسم النّهائي للحدود البحريّة (1988) فالأرضيّة (1995)-، بل أعني ما طالب به الزّعيم الرّاحل الحبيب بورقيبة الرّئيس الجزائري الأسبق هوّاري بومدين من استرجاع للسّيادة التّونسيّة على أراض تعود ملكيّتها لتونس كما هو مثبت في الخرائط العثمانيّة السّابقة للاحتلال الفرنسي.
فالأمر لا يقتصر على 17 كم2 (أو 37 كم2 وفق التّقديرات الأكثر تفاؤلاً) ذات الصّلة بالنّقطة 233، إذ طلب الزّعيم الحبيب بورقيبة عام 1957 من فرنسا "توسيع الحدود التّونسيّة غربًا" وإلغاء الحدّ الرّابط بي "النّقطة 233" و"برج الخضراء" (برج "القدّيس" سابقًا) فحسب (انظر الخريطة عدد 1)، بل بما يناهز 13000 كلم2 (إذا ما احتسبنا الأراضي المغتصبة -من قبل المحتلّ الإيطاليّ بتواطؤ فرنسيّ- من الجانب اللّيبي أيضًا (انظر: الخريطة عدد 3). ما حدا بالزّعيم الحبيب بورقيبة إلى اشتراط استرداد هذه الأرضي من الرّئيسين معمّر القدّافي وهوّراي بومدين قبل الموافقة على مبدإ الوحدة الثّلاثيّة بين تونس والجزائر وليبيا.
وصورة الواقعة: أنّ لقاءً جمع بين الرّؤساء الحبيب بورقيبة وهواري بومدين ومعمّر القذافي (سنة 1972)-الذي طالب فيه الزّعيم بورقيبة باسترجاع حقوقنا التّاريخيّة على الأراضي المغتصَبة- في مدينة الكاف بمناسبة إحياء أحداث ساقية سيدي يوسف (8 فيفري 1957)، طرح رئيسا الجزائر وليبيا على الزّعيم بورقيبة مشروع وحدة ثلاثيّة بين البلدان المغربيّة الشّقيقة، وكان ردّ الرّئيس التّونسيّ على هذا المقترح بالإيجاب شريطة أن يُعيدا البلدان لتونس أراضيها التي اغتصبها منها المحتلّ الفرنسيّ فيما يخصّ الجزائر، والدّولة الإيطاليّة فيما يخصّ ليبيا.
وقد توجّه الرّئيس التّونسيّ إلى الرّئيسين الآخرين قائلاً: ""أقبل الوحدة شرط أن تعيد حكومتكم المستقلّة الأراضي الشّاسعة شرقي الجزائر، وخاصّة في جهة قسنطينة التي سبق أن ضمّها الاستعمار الفرنسي إلى الجزائر... وبعد ذلك نمضي اتّفاقيّة الوحدة". والحادثة موثّقة في أرشيف مؤسّسة التّميمي للبحث العلمي والمعلوامت على لسان وزير الخارجيّة الأسبق السيّد محمد المصمودي -الذي كان شاهد عيان على هذا اللّقاء الثّلاثيّ-. كما أنّ تفاصيل الشّهادة مذكورة على هامش "شهادة" السيّد الهادي البكّوش بخصوص الرّسم النّهائي للحدود بين الجزائر وتونس.
وإنّما وضعنا كلمة "شهادة" بين ظفرين للتّدليل على أنّ قول السيّد البكّوش عرضة للتّجريح باعتبار أنّه مهندس ما سمّي آنذاك "إبرام معاهدة الإخاء والوفاق بين تونس والجزائر ومورتانيا"، والذي كان يهدف إلى وأد سعي الوطنيّين من بين الزّعماء التّونسيّين للمطالبة باسترجاع الحقوق التّاريخيّة التّونسيّة اغتُصبت من شعبنا الأبيّ بقوّة الحديد والنّار. كما أنّ هذا الرّجل كان من بين رموز "التّغيير المبارك" الذين ساهموا فيما سمّته أبواق الدّعاية النّوفمبريّة: "الحسم النّهائي لملفّ الخلافات الحدوديّة مع الجزائر"، وذلك بـ "وضع العلامات الحدوديّة النّهائيّة بين البلدين".
وقد أُبْرِمت هذه الصّفقة المشبوهة على أساس تمكين الدّولة التّونسيّة من استغلال الثّروات الطّبيعيّ في إطار عقود شراكة مع الدّولة الجزائريّة. وفضلاً عن عدم قابليّة هذا الاتّفاق للتّنفيذ، فأين حقوق التّونسيّين من عائدات الحديد المُستخرج من باطن الأراضي المحيطة بقسنطينة مثلاً؟ فالمسألة لا تقتصر على الثّروات الطّبيعيّة التي تكتنزها هذا الأراضي فحسب، بل أنّها مسألة مبدئيّة من صلب السّيادة الوطنيّة التّونسيّة، بحيث أنّه لم يكن من اختصاص نظام السّابع من نوفمبر التّفويت في حقوق التّونسيّين التّاريخيّة، وبخاصّة أنّه فاقد للشّرعيّة الدّستوريّة كما دلّلت على ذلك ملفّات تزوير الانتخابات التي كشفت عنها هيئة الحقيقة والكرامة، سواء أتعلّق الأمر بانتخابات 1989 أم بتلك التي أُجريت في سنة 1994.
وإذا ما كان الأمر على ما وصفنا، فإنّه يحقّ للدّولة التّونسيّة أن تطْعن في شرعيّة الاتّفاقات التي أبرمها بعض رموز السّابع من نوفمبر باسم الشّعب التّونسيّ، والحال أنّهم لا يمثّلون إرادته في شيء فضلاً عن أن ينطقوا باسمه. وخاصّة إذا ما انتبهنا إلى أنّ الخلاف الحدوديّ التّونسيّ الجزائريّ موثّق في سجلّات الأمم المتّحدة، ولم تحفظه المنظّمة الأمميّة وفق آليّاتها المعتمَدة والمعهودة. وما ضاع حقّ وراءه طالب.
ملاحق: الخرائط المثبتة لحقوق التّونسيّين التّاريخيّة
الخريطة عدد 1
النقطة الجغرافية المعروفة بالنقطة 233 بالجنوب التونسي
الخريطة عدد 2
الحدود التّاريخيّة التّونسيّة
هذه هي الحدود التّونسيّة كما صوّرتها هذه الخريطة المُستنِدة إلى معْطيات تعود إلى سنة 1707، وهي الأخرى لا تتناسب وتلك المُعْتَمَدة من قبَل المُسْتعْمر الفرنسي سنة 1881.
الخريطة عدد 3
الخريطة التّونسيّة كما رسمها المحتلّ الفرنسيّ