اللّحظة الأولى كانت لحظة مركبة. فيها توليفة فريدة بين علمانية لا تعادي الدين ولا تفصله عن الدولة وعقلانية مكافحة لكن ضمن الأفق الديني الإسلامي وبهدف إحداث ثورة دينية عجز عنها أهل الدين فتولى أمرها أهل الدولة. هي لا محالة لحظة التميّز بالحداثة وبالعقلانية كما تلقاها الزعيم بورقيبة عن فلاسفة الأنوار والمدرسة الوضعية لأوغست كومت، ونقد الموروث الديني فكرا ومؤسسة ورجالا بسبب تكلسهم وانغلاقهم على متطلبات التطور. ولكنه أيضا مشروع لتجديد وتوسيع الأفق الديني الإسلامي وتوظيف النص القرآني والسنّة المحمدية في معركة الخروج من التخلّف ضمن قراءة عصرية وثورية.
ولذلك لم تكن معركة بورقيبة ضد الدين، خلافا لكمال أتاتورك، بقدر ما كانت معركة ضد إسلام "محنط" وإسلام الطرق الصوفية "المغيّب للعقل". هي ثورة كانت تونس وكل العالم العربي والإسلامي في حاجة إليها، وقد نادى بها دعاة الإصلاح الراديكاليين أمثال محمد عبده والكواكبي في المشرق العربي وعبدالعزيز الثعالبي والطاهر الحداد في تونس وابن باديس مؤسس جمعية العلماء المسلمين في الجزائر وعلاّل الفاسي في المغرب.
ولكن بورقيبة ذهب بهذا الإصلاح الثوري إلى أبعد مداه، بل وقع في مبالغات وتجاوزات منها إبراز غير متوازن لسلبيات الموروث، ومنها احتقار المؤسسة الزيتونية ورجالها إلى حدّ الإهانة والإقصاء، ومنها تقديس الجديد والحطّ من كل ما هو تقليدي وقديم، بدءا بالفكر ومرورا بالسياسة والحزب الذي انتمى إليه وانتهاء بالهيئة واللباس، رجاليا كان أم نسائيا.
نعم كانت حداثة مواجهة في خدمة مشروع مجتمعي للخروج من التخلف والارتقاء بالمستوى المادي والفكري والأخلاقي للتونسيين. ورغم جرأتها البالغة، سواء في مجال التمكين للمرأة (خلافا لما ادعته النسوية المصرية نوال السعداوي) أو إزاء الممارسة الدينية (الدعوة للترخيص في إفطار رمضان)، فقد وقفت عموما عند حدود المقدسات الدينية الأصلية ولم تمس بالأخلاق المقبولة اجتماعيا، بل استنكرت في لحظة وعي، مظاهر الانحلال الذي كان من المضاعفات الثانوية للتحديث والتغيّر الاجتماعي والثقافي السريع. باختصار كانت البورقيبية، وفق قراءتنا هذه، ثورة من داخل الإسلام لا ثورة على الإسلام.
الإصلاحات البورقيبية، على جرأتها ثورة من داخل الضمير المسلم وليست ثورة على الإسلام.
تحديث الإسلام رفض رجال الدين المغامرة به فتولّى أمره رجل الدولة
اللحظة النوفمبرية، وعلى خلاف الأولى، هي لحظة التعاطي الأداتي الصرف وبالتالي التلاعب بكل من الإسلام والحداثة. هي توظيف مخادع لبعض الرموز الدينية وتلويح كاذب بعناوين أو شعارات الحداثة.
ففي الجانب الأول لم تكن بعض التنازلات الشكلية لمظاهر احترام الدين سوى عملية لتوسّل الشرعية الدينية ومداواة الجروح التي خلّفتها العقلانية المكافحة ولسحب البساط من تحت أقدام الخصم السياسي الإسلاموي، سرعان ما تركت المجال لحرب شاملة هدفها اجتثاث الأسباب الفعلية أو المفترضة للمدّ الإسلامي وقمع تعبيراته الفعلية منها والوهمية.
هكذا تم تدجين جامعة الزيتونة وتحديث برامجها بطريقة فوقية وقسرية أشبه ما تكون بالاغتصاب الفكري، مع تحويلها إلى فضاء خاضع للرقابة البوليسية والتجمعية المشددّة. وفي نفس السياق كانت محاربة تسييس المساجد تعلّة للتحّكم في كل نشاط مسجدي ومراقبة مظاهر التدّين، كما كانت مطاردة الحجاب والمحجبات في الفضاءات العامة والمؤسسات العمومية مؤشرا قويا على الهوس الذي أصاب النظام فجعله يتصوّر تحت كل حجاب عقلا إسلامويا كما أعماه عن الأسباب الاجتماعية المتعددة التي أدّت إلى انتشار الحجاب من جميع الأشكال و الكثير منها لا علاقة له بالسياسة ولا بقوّة التدّين.
اللحظة النوفمبرية : توظيف مخادع لبعض الرموز الدينية وتلويح كاذب بشعارات الحداثة
معاملة الجامعة الزيتونية: تحديث فوقي للبرامج شبيه بإغتصاب فكري مرفوق برقابة بوليسية وتجمّعية مشددّة
وفي كل ذلك لم يكن بن علي وأركان نظامه أصحاب مشروع مجتمعي ورؤية تاريخية حتى وإن جيّروا العناصر المرتزقة واستغلوا قناعات العديد من المثقفين والسياسيين. كانوا مجرد أصحاب مواقع ومصالح استحلوا من أجلها الحرمات وهتكوا الأعراض وداسوا على القيم النبيلة والمبادئ الحقوقية الكونية التي أوهموا الغرب بأنهم يدافعون عنها ضد جحافل الظلامية.
لقد بلغ بهم الأمر حدّ الإذن لجلادي غرفة التعذيب بمكاتب أمن الدولة بتعليق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نكاية بكل من تسوّل له نفسه تحدّي البطش. لذلك كانت حداثتهم الفكرية والسياسية زائفة وحداثتهم المجتمعية كاذبة، مجرد واجهة لتونس واحتفاء بمظاهر الحداثة دون جوهرها ودعاية توهم الغرب باحترام مقدساته في مجال الحريات مع دوسها بشكل يومي ومنهجي وسادي.
تدريس مادة حقوق الإنسان وجوبا في الجامعات مع الامتحان فيها، وتخصيص خلية لحقوق الإنسان بوزارة الداخلية وكله بهتان. مصادقة على المعاهدات الدولية المنادية بحقوق المرأة وحرياتها مع ملاحقة كل تونسية اختارت حرية وضع الحجاب. حداثة مزيفة وحداثة تقتصر على القشور والمظاهر بدءا بإبراز صورة السيدة الأولى الجميلة والعصرية وانتهاءا بلافتات مكاتب العلاقة بالمواطن والمداخل المخصصة للمعاقين وشوارع البيئة، أي ما يحبه الغرب ويغفل عمّا عداه.
اللحظة الثالثة ضمن المسعى الحداثي انطلقت إثر انتخابات 2014 وشهدت حدثين بارزين . الأول إقرار قاعدة التناصف ببعديه العمودي والأفقي في المجالس المنتخبة وهي سابقة زايد بها حداثيو تونس على العالم أجمع بقدر ما أوقعونا في ورطة تطبيقها.
أما الثاني فهو طرح الرئيس الباجي قايد السبسي فكرة المساواة في الإرث بين الرجال والنساء وتكليفه لجنة متحمّسة لإعداد مشروع في هذا الشأن. وبرأينا أن هاتين المبادرتين تأتيان ضمن هجوم عام للمعسكر الحداثوي من مؤشراته كذلك تصاعد الأنشطة الجمعياتية المدفوعة والممولة من الخارج لإثارة مشكل الأقليات و"الدفاع" عنها. ومنها أيضا تنامي الدعوات المدعومة من الخارج لأجل تقنين النشاط العلني لجمعية "شمس" للمثليين الجنسيين، والنشاط لفائدة حرية الدعوة للإلحاد.
قاعدة التناصف العمودي والأفقي مزايدة حداثوية على العالم أجمع
يلاحظ من قراءة أولى أن هذا الزحف الحداثوي موجّه بالأساس نحو إغراء وجلب الفئات الثلاث التي تعتبر اليوم رأس حربة التغيير الاجتماعي والثقافي وهي النساء والشباب والأقليات "الثقافية". ويمكن أن يضيف إلى ذلك المدافعون عن هذه المبادرات بكونها تستهدف تعميق أو ترسيخ مكتسبات الحداثة في تونس عبر إنجاز ثان غير مسبوق في العالم الإسلامي، بعد ذلك الذي سجله التاريخ لبورقيبة في أوت 1956.
لكن ثمّة قراءة ثانية مكمّلة للأولى وهي أنه يصعب الفصل بين هذه التحركات والتحوّل الذي حصل في مواقف طيف واسع من الحداثيين إزاء التوافق الوطني الذي جسده دستور 2014. فهذا المنجز كان ثمرة مفاوضات مضنية تخلّلتها مواجهات طيلة سنتين أفضت إلى تنازلات ووقوف على المشترك أو المتكامل من المبادئ والقواعد التي تعطي للتونسيين إطارا مقبولا للتعايش.
وبالمناسبة فإن ما يقال عن "التوافق المغشوش" لا يميّز كما ينبغي بين التوافق الوطني الواسع كما حصل حول الدستور وبين التوافق اللاحق الذي حصل بين القيادات المتنفذة في كل من حزبي النداء والنهضة لأجل خدمة مصالح حزبية وفئوية.
المهم أن أطرافا كانت أو ماتزال تنتمي للنداء والأحزاب اليسارية والقطاعات الجمعياتية والحقوقية وبعض الإعلاميين لم تكن قابلة أصلا بما جاء في دستور 2014 من توفيق أو إن شئنا تكامل بين إسلام تونس ومدنية نظامها وبين احترام حرية الضمير واحترام المقدسات الدينية.
وفي ضوء ذلك لا نتعجب أن نشهد اليوم إحياء الخلاف الذي جدّ عند مناقشة مسوّدة الدستور وعودة الموقف الحداثوي المقاتل والذي يدّعي أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بالإضافة إلى المواثيق المتفرعة عنه، يمثل أعلى مرجعية قيمية يتم الاحتكام إليها وأن كونية حقوق الإنسان تسقط بل تلغي الموروثات الدينية أو التقاليد الثقافية التي تتعارض مع بعض فصول الإعلان المذكور.
من الواضح أن النخب التي تقف هذا الموقف تغفل حقيقة كون المواثيق ذات الصلة ليست سوى صياغة لسلم القيم الذي أنتجته الحداثة الغربية الغازية، وأن صلوحية هذه المبادئ في عمومها وحاجتنا إليها للدفاع عن حقوق الأفراد والأقليات المظلومة والفئات المعرّضة للميز لا تستتبع بالضرورة الالتصاق بحرفية نصوصها والتمسّك بتفاصيل بنودها، وأن للمجتمعات والدول حقوقا في التحفظ على بعض ما ورد فيها بالنظر لخصوصية معتقداتها أو منظومتها الأخلاقية أو عاداتها أو حتى لتقديرات تتعلق بتفاعلات هذا المجتمع أو ذاك مع القيم الوافدة عليه.
حول هذه النقطة يجدر التذكير بالكيفية التي تعاملت بها الحكومات التونسية مع اتفاقية سيداو حول القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة. كانت تونس صادقت سنة 1985 على هذه الاتفاقية بعد ست سنوات من اعتمادها من طرف الجمعية ا لعامة للأمم المتحدة.
لكن مصادقتها جاءت مرفقة باحترازات على ما ورد بالفصول المتعلقة بالمساواة في الإرث وبحق المرأة في إسناد لقبها العائلي أو جنسيتها لأطفالها وحقها في اختيار مقر الإقامة مع الحصول على نفس الحقوق كالرجل فيما يتعلق بالولاية والقوامة. وقد أوضحت الدولة التونسية آنذاك أنها لن تتخذ أيّ قرار تنظيمي أو تشريعي طبقا لمقتضيات اتفاقية سيداو من شأنه أن يخالف أحكام الفصل الأول من الدستور.
إثر الثورة ومجيء حكومة قائد السبسي قامت هذه الأخيرة في أكتوبر 2014، وهو تاريخ يثير أكثر من سؤال، برفع التحفظات المشار إليها، ثم جمّدت حكومة الترويكا هذا القرار ولم تقم بإيداعه إلى أن جاءت حكومة المهدي جمعة فالتزمت برفع جميع التحفظات. من الواضح أن المسألة لا تتعلق فقط بتحوّل "طرأ" في الأثناء على فهم "التونسيين" لإسلامهم أو طريقة تعاملهم مع مسألة حقوق كل من الرجل والمرأة. فالعامل السياسي كان حاضرا بقوة في القرارات التي تلت الثورة.
وعلى كل حال فقد سارت الأمور بعد ذلك باتجاه رفع القيود عن حقوق المرأة ممّا لم يثر كبير حرج في علاقة الدولة بالمجتمع الأهلي، إلى أن وصلنا إلى ما يعتبره البعض العقدة الرئيسية في علاقة الرجل بالمرأة أي موضوع المساواة في الإرث.
وحتى لا يكون ثمّة سوء فهم، توضح أن ما سيلي لا يتعلق بموقفنا الشخصي من هذه المسألة وإنما بقراءة من موقع الباحث والمتابع للشأن العام والمهتم بأن تكون الأغلبية الشعبية متقبلة لقرارات كبرى من هذا النوع بدل وضعها أمام الأمر المقضي في تكرار لتجربة بورقيبة في استخدام التشريع لإحداث التغيّر الاجتماعي، وهذا رغم اختلاف السياق والموضوع.