- الطيب ،غدوة تجي تهزّني للبحر
-اتفقنا، توّة نتعدالك قبل الخمسة صباحا
وأعلم فطّومة بالخبر، لتبدأ التحضيرات فورا،يجب أن نتفقّد الخيمة،والملاحف التي يجب ان تحجب كل منافذها من جميع الجهات، ويجب إن نتفقّد الكانون وآلة الشاي ،وان نملأ علبتين بالشاي الأحمر والسكر والنعناع،دون أن ننسى " الكيسان الطرابلسي"،وحصير النايلون ومخدّة ،وقوارير المياه المثلّجة، كما يجب ألا نغفل عن " الدجاج المصلي والسلاطة المشويّة" والدلاع!ومائدة صغيرة لتفطر عليها، وكرسيا مريحا لتجلس عليه لتراقب البحر!ولكي لا ننسى أي جزئية نسجل كل شيء على وريقة ونضع علامة الإيجاب امام كل ما نحشره في صندوق السيارة!
تسيقظ فطومة الرابعة صباحا لتحضّر الأكل والشاي، ومع الساعة الخامسة صباحا،ترافقنا هنيّة إلى شاطئ ڤمرت، ويجب ان نختار لها مكانا خاليا تماما من المصطافين،فهي حريصة ألاّ ترى أحدا او يراها أحد!
نجهّز الخيمة ،ونفرش لها حصير النايلون ونضع المائدة ،تترشف قهوتها على مهل وهي تراقب البحر من فتحة الخيمة،تمرّ باخرة عملاقة من بعيد ،فتترك كلّ شيء،وتنهض واقفة ، وتركّز نظرها على الباخرة وتسألني: هذه رائحة أو غادية؟أجيبها: هذه بالتأكيد تتّجه نحو ميناء مرسيليا في فرنسا ،يتجهّم وجهها الجميل،تنقبض أساريرها، تتجمع ظلال كثيفة على صفحة وجهها ،وتطفر من عينها دمعة سرعان ما تمسحها بكمّها ،تتقدّم نحو الشاطئ لتخفي انفعالها واضطرابها ،وألتحق بها وأطوّقها بذراعي وأهمس لها:
-وشبيك يمّة، علاش عينيك دمعت كي شفت البابور؟
تغمغم حزينة:
-البابور هو اللّي هزّ محمد الصالح ولد عمي لفرانسا وقت الحرب، ومارجعش!
وأحاول أن أسرّي عنها ،فأدفعها نحو الماء فتقاوم رغبتي وتعود للخيمة لتستكمل قهوتها ثم تطلب مني أن أضع لها كرسيّا بجانب الخيمة، وتأمرني ان اصطحب فطومة لنسبح بعيدا عنها على ان ألتحق بها بعد نصف ساعة،ولكنّها سرعان ما تقتحم الشاطئ رويدا رويدا، موغلة في مياه البحر وهي ترفع ثيابها لتتوقّف بعض الوقت ،قبل ان تلقي بجسدها في الماء،مستسلمة للموج يحتضنها برفق تارة ويدفع بها بعيدا تارة أخري، يجذبها إلى الأعماق حينا ويلفظها حينا آخر،
وبعد أن ينال منها التعب تشير إليّ بحركة من يدها أن ألتحق بها إلى خيمتها،فتتناول غداءها وتترشّف شايها الأسود الثقيل،ثمّ تخلد إلى نوم عميق بعد ان نسدّ جميع المنافذ !ولا تستيقظ إلا والشمس قد مالت للمغيب،فتتمشّى على الشاطئ وعيناها تعانقان الأفق البعيد،تجمع الصدفات حينا، وتقتحم الماء حينا وتجلس على الرمل النديّ حينا آخر ،
وبمجرد أن يغادر المصطافون،ويخلو لها الشاطئ،تصرّ على بسط حصير النايلون قريبا من الماء،وتهيئة الكانون وكل مستلزمات الشاي ، فأضع رأسي في حجرها، وتغمغم هي بكلمات لم أتبيّنها،فأطلب منها " باش تخرّفني كما كانت تفعل وأنا صغير" فتهمس وكأنها تخاطب طيفا غير مرئيّ " كان حياني ربّي وجيت للبحر مرّة أخرى ،توة نخرّفك"
وكان لقاءها الأخير بالبحر ،فقد رحلت بعد يومين !