طلع عليْنا وزير الشّؤون الثّقافيّة للتّونسيّين مُعْلنًا أنّ الدّولة قد رصدت عشرة آلاف دينارا لدعم المَهْرجَانات الصّيفيّة. فإذا ما علمْنَا، من جهة، أنّ عدد المهرجانات المَذْكورَة لا يقلّ عن 300 مهرجانًا، و، من جهة أخرى، أنّ الميزانيّة المَرْصودة لمهرجان قرطاج الدّولي لا تقلّ بِمُفْرَدها عن 5,5 مليون دينارًا، لاسْتنْتجْنا أنّ الرّقم المُقدَّم من الأستاذ زين العابدين لا يلامس الحقيقة البتّة.
بل أنّ الرّقم الذي قدّمَه بخصوص ميزانيّة قرطاج لا يمتّ لواقع الحال بصلة، ذلك أنّ تسريبات إدارة المهرجان، أفادت بأنّ عرْضيْ كلّ من ماجدة الرّومي وكاظم السّاهر قد تكلّفا بمفْرَدهما على دافع الضّرائب التّونسي 800 ألف دينارًا. بل أنّنا علمنا من نفس المصْدر المأْذون أنّ "الدّيفا"، كما يحلو للبعض تسْميتها تشْبيهًا بالرّبوبيّة –على المستوى الاشتقاقي في الحدّ الأدنى-، أمينة فاخت، قد تقاضت 175 ألف دينارًا لقاء الحفل الواحد (وهو التّدقيق الذي تناساه مدير المهرجان)، أي أنّ مجموع عائدتها من ركح قرطاج يرْتفع إلى حدود 350 ألف دينارًا (باعْتبار العرْضيْن الذيْن خُصّصا لها يومي 21 و24 جويلية 2018).
وكادت المُفَاوَضات العسيرة التي سبقت ابْرام العقْد بين الطّرفيْن أت تجهض عروض الفنّانة، حيث أنّ "الدّيفا" قد اشترطت مبلغًا ماليًّا قيمته 370 ألف دينار مقابل إحياء الحفلتيْن في قرطاج، أي 185 ألف دينار للسّهرة الواحدة، أضفْ إليهما أجر متعهّد الحفلات (4 ألف دينار)، وهو الأمْر الذي ضيّق من حدود أو مساحة التّفاوض لدى الادارة الفنّيّة لمهرجان قرطاج والمؤسّسة الوطنيّة لتنمية المهرجانات والتّظاهرات الثّقافيّة بالخصوص التي عرضت مبلغ 110 ألف دينار للحفل الواحد. وحسْب بعْض المصادر المُطّلعة، فإنّ تدخّل السيّد وزير الشّؤون الثّقافيّة كان حاسِمًا في إبرام العقْد بالكيْفيّة التي ذُكِرَت.
ولئن كانت هذه النّهاية السّعيدة محمودة، خاصّة وأنّ المطربة أمينة فاخت قد الْتزمت بتخْصيص جزء –ولئن لم تحدّد نسبته على جهة الدقّة- من إيرادات حفلاتها الصّيف الجاري لعائلات شهداء تونس من بين ضحايا العمليّة الإرهابية الأخيرة، فإنّ برْنامج العُروض الذي الْتزمت به الفنّانة تجاه الوزارة المعْنيّة هو من الطّموح بحيث أنّه يعْسر إنجازه على الوجَه الأكْمل، وذلك بالنّسبة لفنّان مباشر بصفة منتظمة لفنّه، فما بالك بسيّدة قد تجاوزت الخمسين من عمرها وانقَطعت عن الرّكح مدّة تناهز العشْرِيَّة بأسرها.
فأنّى للدّيفا أن تأتي على الثّلاث عشرة عرض الذين وقع برْمجتهم بصفة متتالية (21-24-27 جويلية و1-3-5-7-9-11-13-16-18 أوت)، وفي جميع أنحاء البلاد (قرطاج-قفصة-سوسة-قابس-المنستير-دقّة-قمّرت-نابل-بنزر-جربة-طبرقة-الجم)؛ والحال أنّ علامات الإرهاق الجسديّ قد بدت عليها واضحة بعْد أن قَضَت ساعتيْن دون سواهما على رُكْح قرطاج في سهرة "عوْدة الرّوح" الإفْتتاحيّة، حتّى أنّها لم تتمكّن من توْديع جمهرها الذي ظلّ ينتظر عودتها دون جدوى؟!
أمّا على المُسْتوى الفنّي الصّرْف، فإنّ "الدّيفا" قد فقدت بفعل عدم التّمرّس الكثير من إمكانيّاتها الصّوتيّة، وذلك برغم المجهودات الجسام التي بذلتها الفرقة الموسيقيّة بقيادة المايسترو محمّد الأسْود للتّغطية على قصور أحبالها الصّوتيّة عن إدراك الطّبقة العالية وبخاصّة حيثما تعلّق الأمر بالقرار؛ كما أنّ المجموعة الصّوتيّة المتكاثرة العدد، بمعيّة جمهور المَسْرح قد نجحا في معظم الأوقات في استدراك قصر نفس الفنّانة، مع إحداث بعض الضّجيج غير المحمود في مثل هذه المناسبات الطّربيّة، أو المُفْتَرَضة كذلك على الأقلّ.
ويبدو أنّ رهان وزارة الشّؤون الثّقافيّة، باعتبار أنّ السيّد الوزير هو الذي أصرّ شخْصيًّا على برمجة الفنّانة أمينة فاخت رغم تحفّظات إدارة المهْرجان المُعْلَنة وغير المُعْلَنة، وستكْشف الأيّام هذه الحقائق، لم يكن فنّيًّا بالدّرجة الأولى، بل سياسويًّا إلى أبْعد الحدود.
فإصرار الوزير على برْمجة هذه العُروض برغم غياب كلّ جديد يُذْكر في برنامج الفنّانة، عدَى أغنيتين قصيرتين أُعدّتا على عجل للمُناسبة، ولا ترْتقيان إلى المقاييس الإبداعيّة الرّاقية كلمة ولحْنًا وخاصّة أداءً. وفيما عدا هذه "اللّمجة الخفيفة"، فإنّ بقيّة برنامج السّهرة كان مجترًّا بل مُستهْلكًا. وقد تفطّن جزء من الجمهور إلى هذه النّقائص، فلجأ إلى مغادرة المسْرح بصفة مبكَّرَة، ولولا بعض الحيل التّهريجيّة لأنهت الفنّانة سهْرتها في عزلة مقيتة.
ولسائل أن يتساءل: ما طبيعة رهانات الوزارة من مثل هذه العروض إن لم تكن فنّيّة بالأساس.
والإجابة عن هذا السّؤال تستدعي اسْتحْضار تجارب الأمم على حدّ تعبير المؤرّخ ابن مسْكويه، ولنا في الإمبراطوريّة الرّومانيّة في طور تقهْقرها أحسن مثال عن توظيف العروض الفُرْجويّة في مسارحها لتلهية العوامّ وضرفهم عن واقعهم المأسوي. ولكن لم تكن هذه هي غاية صاحب القرار الوحيدة. فالفنّانة رمْزًا من رموز الوعْي الحداثوي العامّي الأكثر شيوعًا بين طبقة البورجوازيّة الحضريّة، وبخاصّة النّسْويّة منها.
ولئن لم تكن لنوعيّة فنّها أيّة علاقة بالفكر الحداثي، حتّى في أبسط تمثّلاته البدائيّة، فإنّ ما تقدّمه الفنّانة من حركات جسديّة على الرّكح –من حيث إيماؤه إلى بعْض الدّلالات البؤبؤيّة الجنسيّة- قد يوحي بضرب من التّحرّر يمكن أن يؤوَّل على أنّه يتنزّل منْزلة القطْع مع ماضٍ مُحافِظ.
وأخيرًا وليْس آخرًا، فإنّ أمينة فاخت ترمز إلى فتْرة من تاريخ البلاد يسْعى الخطاب الرّسمي، في شقّه الرّأسمالي المتوحّش الذي تمثّله الجهات المانحة والمموّلة للحكومة الحاليّة، إلى إعادة الصّلة بها واستحْثاث الحنين إلى رموزها الثّقافيّة. فعوْدة هذه الفنّانة على ركح المهْرجانات هو، على نحْو ما، ضرب من إعادة الصّلة بتلك الفتْرة الذّهبيّة مقارنة ببؤس مرحلة ما بعْد الثّورة هذه التي لم يجن منها الشَّعْب سوى المتاعب. ومثل هذا التّمشّي الشّعبوي لا يُسْتغْرب من وزير قضّى مُعظم مساره الإداري تحت لواء النّظام النّوفمبري.
وتأكيدًا منه على تبنّيه الشّخْصي لعروض "الدّيفا" على ركح قرطاج، حرص السيّد وزير الشّؤون الثّقافيّة على حضور العَرْصيْن ومواكبتهما من البداية إلى النّهاية. فهل أنّ حرْصه هذا يعبّر عن أوْلويّات الدّولة أم عن اصْطفافه وراء خيارات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة أعلن رأس الدّولة بنفسه عن فشلها؟