حيرة الجمهورية التونسية في عيدها الـ61

Photo

احتفل الساسة في تونس بيوم يسمونه عيد الجمهورية (25 من يوليو/تموز) وتجمعوا بالزي التقليدي في قصر الرئيس واستضافوا ممثلي السلك الدبلوماسي، في بروتوكول مطابق لاحتفالات الفرنسيين بذكرى ثورتهم.

كان يومًا من النفاق الرسمي، فبالتوازي مع الاحتفال كانت السوشيال ميديا قد وصلت إلى قمم عالية من السخرية السوداء من جمهورية عمرها 61 سنة لا تقدر على تشغيل أبنائها، فيرتمون في البحر سباحة إلى ضفة الاستعمار القديم، فضلًا عن خيبات أخرى كثيرة ومتنوعة طفت على سطح المشاعر بسبب ثورة سرقتها الجمهورية، أو بالتدقيق بسبب طموح شباب ثائر وطامح إلى التغيير غم عليه حكم عجوز قاهر أفرغ آماله وطموحاته في شاغل أسري غريزي، جعل من احتفال عيد الجمهورية مناسبة لتسويق ابنه كرئيس قادم.

خارج الاحتفال كان الناس يعانون فشل حكومة الجمهورية، فلا مجال من مجالات الحياة إلا وفيه كارثة تتربص بالناس وبالبلد، سنعرض بعضها لنرى أن الفشل يأتي ممن يحتفل بالعيد لا ممن يسخر حزينًا من بؤس عيد الجمهورية.

صراع التجارة والفلاحة

في الجمهورية التي تحتفل تعجز وزارتي التجارة والفلاحة (الزراعة) عن تنسيق عملهما لحماية السوق من التوريد العشوائي لحماية المنتج الوطني وحماية الفلاح المنتج، في كل صيف تتجدد كارثة الحليب فيشح من السوق، فتسارع التجارة إلى سد النقص بالتوريد لأن وزارة الفلاحة لم تفلح أبدًا بعد في ادخار فائض الإنتاج الشتوي من الحليب الذي يسكب بعضه في الطرقات، لم تقدر وزارة الفلاحة على تنظيم سوق الحليب بإنشاء وحدات صناعية للتعليب والتصدير في موسم وفرة الإنتاج لموسم الشح، وتتكرر في الأثناء موجة سخيفة من الصراع بين أنصار التوريد من تركيا وأنصار التوريد من فرنسا كأن هذه البلدان تمنحنا أفضليات في السعر، وما هي إلا بلدان تبيع بلا رحمة لسوق غبية.

ما يقال عن الحليب يقال عن البطاطا والبصل اللذان تنزل أسعارهما في صيف الوفرة وترتفع في فترة الشح، يخسر الفلاح المنتج ويربح التاجر الذي يتربص في كواليس وزارة التجارة ليحصل على رخص توريد لا تراعي كمية المنتج المحلي ولا تعمل على حمايته، إدارتان في حكومة واحدة لا تنسقان عملهما، والخاسر الأول هو الفلاح التونسي الذي لم يخذل السوق رغم كل الاضطراب السياسي منذ الثورة.

الصحة والشؤون الاجتماعية يعجزان عن التحكم في سوق الدواء

يخوض المرضى التونسيون وخاصة المصابون بأمراض مزمنة حرب وجود على الدواء الذي نضب من السوق، في النظام الصحي الجاري به العمل في تونس يقوم الصندوق الوطني للتأمين على المرض بتعويض ما ينفق المريض التونسي على الدواء، وتذهب مبالغ التعويض للصيدلية المركزية للبلاد التونسية، وهي مؤسسة عمومية من مؤسسات الجمهورية تتحكم في سوق الدواء فتحتكر التوريد وتسعر المشتريات من المنتجين المحليين وهم كثر (توجد مخابر تونسية منتجة للأدوية الجنيسة وقادرة على تغطية السوق المحلية والتصدير).

تتأخر المؤسسات العمومية في دفع ما عليها من واجبات مالية لصندوق التأمين على المرض الذي يعجز عن تمويل الصيدلية المركزية التي تعجز عن الشراء والتوريد، فيختفي الدواء من السوق ويظهر وزير الصحة يتأتأ - فلم يرزق لسانًا فصيحًا ولا قدرة على التواصل - ليبرر ولا يشرح ولا يحدد المسؤوليات خوفًا على سلامة الحكومة، يعطي للناس انطباعًا بأنه يقاوم الفساد في سوق الدواء لكنه لا يقدم نتائج ولا مؤشرات على عمله، فينقلب الأمر عليه بصفته متسترًا أو عاجزًا أمام الفساد.

يترك وزير الشؤون الاجتماعية ملفاته الحارقة؛ عجز صندوق التأمين على المرض وعجز صناديق التقاعد وتأخر دفع معاشات المتقاعدين، وينشغل بالدفاع عن حالة طفل يُستخدم دون السن القانونية في سوق الخضر ويتعرض للضرب، فتصير مشكلة رد الاعتبار لسيادته مقدمة على حل مشاكل وزارته التي هرب منها إلى عدل مهرجاني في السوق، ونظل نطوف حول المشاكل الحقيقية العميقة ونحتفل بعيد جمهورية لا يجد مرضاها دواء السكري في السوق.

النقابة مشغولة بمسألة الختان

تركت النقابة كل مشاغل النقابات خلفها وانخرطت في الصراع السياسي الجاري، فانحازت إلى طرف دون آخر، فانتهى بها الأمر في صف مثقفين مشغولين بقضايا الختان والعدة باعتبارهما من بعض مظاهر عدم المساواة بين الجنسين التي وجب حلها قبل مشاكل التشغيل والتهميش الاجتماعي، لم تعد نقابة للجميع بل نقابة فئوية، صارت أولوياتها سياسية وثقافية في معركة ليست من معارك النقابات.

باعتماد قوة النقابة الفئوية حوّل مثقفو الجمهورية تقرير الحرية والمساواة من ورقة نقاش عام طويل النفس بشأن المجتمع المنشود إلى ورقة سياسية يتحزبون حولها ويصدرون البيان رقم واحد داعين إلى خوض حرب استئصال ضد الفاشية الدينية، وهروبًا من وصم الفاشية الدينية يتحزب التيار الإسلامي حول موقف ثابت من النص الديني وبواسطته ليقطع النقاش في مسألة الحرية والمساواة، ويعسكر الجميع في مواقعه في انتظار الرصاصة الأولى من أحد المعسكرين، بينما تظل مشاكل الدواء والصحة والتقاعد ومشاكل البطاطا والبصل والزيت معلقة في انتظار معجزة، ويظل التونسي المسحوق يوميًا يسخر في السوشيال ميديا من عيد الجمهورية.

أين يذهبون بالجمهورية؟

حركة السفير الفرنسي يوم الاحتفال في قصر قرطاج ذكرتني بشخصية المحرك في الحومة التونسية، المحرك هو شخص يعرف الجميع ويدير شؤون الجميع ويحضر في الملمات فيحل المشاكل ويوجه الناس وينوب عنهم في أمور كثيرة من أمورهم ويكون معروفًا ومحبوبًا من الجميع، لاحقًا حولت دولة الاستقلال/الجمهورية المحرك إلى مخبر سلطة يخشاه الجميع.

السفير المحرك كان يصافح الجميع ويلتقط السلفيات مع الجميع، ولا شك أن الحوارات كانت ودية من خلال الضحكات العريضة على الوجوه، في أزمة الحكم الحاليّة يبدو أن الدبلوماسي الفرنسي يشتغل محركًا، والجميع يلقي إليه بمشاكله ليحلها، فيضع بين يديه مصير الجمهورية وفي عيدها وقد اكتهلت.

أين يذهبون بالجمهورية؟ إنهم يعيدونها إلى مستعمرها القديم ليديرها بحذق وبراعة، فيما هم يتابعون صراعاتهم بشأن طعم البصل المصري المورد وطعم البصل التونسي الذي يقدم الآن علفًا للبهائم لأن السوق لم تعد تستوعب المنتج.

يحق لنا نحن الحالمين بالجمهورية أن نسخر من المحتفلين بعيدها بعيدًا عن رائحة الفلاحين، وأن نكتب بألم رغم الرغبة في الموضوعية أن رئيس الجمهورية أكبر من الجمهورية، فقد ولدت بعده وحالتها معه كحالة صبية زوجوها لصديق جدها، فلا تمتعت بالحب ولا فرحت بالولد.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات