يتأهّب مناصرو التقيّد الحرفيّ بالشّريعة الإسلاميّة –كما انتهت إلى أفهامهم- (وهم في ذلك أبْعد عن السّلف الصّالح ممّا يعْتقدون) لاسْتعْراض قوّتهم الجماهريّة، بناءً على مناورة سياسيّة ورّطَت فيها السّلطة القائمة لفيفًا من المثقّفين والجامعيّين التّونسيّين غير مؤهّلين بحكم تكْوينهم الأكاديمي للخوْض في المسألة المطْروحة أساسًا، وهي الاجْتهاد في فقه المواريث لمزيد تكْريس مبدأ العدالة الذي قام عليه الإسلام.
بل الأخْطر من ذلك أنّهم لم يضعوا تقْريرهم هذا في إطار أنشطتهم العلْميّة أو وظيفتهم الثّقافيّة العاديّة، بل استجابة لتكليف –حتّى لا أقول: تسخيرًا- من رئيس الدّولة، بما يستتبع ذلك من شبهة التّوظيف السّياسيّ لعملهم. والأخطر من ذلك أنّ حداثيّينا يأتون هاهنا ما يؤاخذون به إخواننا المحلّيّين، أي الخلط بين الدّين والسّياسة، أي المُصادرة عن نصّ دينيّ لإقْرار تشريع مدنيّ وضعيّ.
ولكن قبل الخوض في تفاصيل المسألة المَطْروحة يتوجّب عليْنا اسْتحْضار، على جهة التّذْكير، بعض الأوّليّات الممهّدة لما نحن خالصون إليه بإذنه –تعالى-. فنقول:
كلّ مَن اشْتَغَل بصناعة المَنْطق يعْلم أنّه لا يمكن تصنيف هذا العلْم ضمن السُلّم المَعْرفي المُنظّم تراتُبيًّا لشتّى القُصُود المَعْرفيّة باعتبار طبيعة هذا العلْم الصّوريّة، ذلك أنّ الأُرْغانون هو آلة (وهو بالمُناسَبَة المعْنى الأصْليّ لكلمة الأُرْغانون باللّغة اليونانيّة القديمة) مُجرّدَة من كلّ مضمون مخْصوص، أي أنّه بمنزلة الآلة التي نقيس بها صدْق أو كذب القوْل دون أن تكون لها تعلّق بعلْم مخْصوص دون سواه. بحيث أنّ المنْهج المُعْتَمَد في هذه الحالة لاستنْباط الحقيقة هو الذي يشرّع لحكم الصّدق أو الكذب عليها ولا تُعدّ النّتيجة التي يفْضي إليها القياس صادقة أو كاذبة بذاتها ولذاتها.
وإنّما أوْردنا هذا المَدْخل حتّى يتسنّى للقارئ الكريم تبيّن وجْه سُقْم النّتائج التي أفْضى إليها التّقرير النّهائيّ للجْنة المُساواة والحرّيّات الفَرْدِيَّة. ذلك أنّ واضعيه قد سقَطوا في نفس المَطبّات المَنهَجيّة التي عابوها على المنْهج الفقْهي من حيث اسْتنْباط الفُقهاء للأحْكام الشّرْعيّة.
فعمادُ هذا الاسْتنْباط عند الفُقهاء هو القياس الفقهي الذي يقوم على آليّة المُقارنة، أي قياس الحاضر على الغائب، وهذه الآليّة بحكم طبيعتها الجدليّة، بل السّوفسطائيّة المُغالطيّة في بعْض المواضع، لا تنتج إلاّ معْرفة احتماليّة الصّدق (صادقة بالعرض) في أحسن الأحْوال أو كاذبة في أسْوئها، وهي في كلّ الحالات لا ترتقي إلى مصاف المعْرفة الصّادقة بالضّرورة (الحقيقة) –انظر قانون التّأويل عند ابن رشد الحفيد مثلاً-.
ولمّا كان المنهج المُعْتَمَد في هذا التّقرير مفْتقر إلى كلّ بعْد برْهانيّ، اسْتعاض واضعوه عن استقْواء الفقهاء بالأدلّة النّقليّة المُسْتَنْسخة من النّصوص الدّينيّة بأخرى مُسْتَوْرَدة من ظاهر نصوص القوانين والمعاهدات الدّوليّة. فتعلّلوا تارة بضرورة التزام الدّولة بالمواثيق الدّوليّة ذات الصّلة، وطوْرًا بالبُعْد الكوْني لمبادئ الإعْلان العالمي لحقوق الإنسان من مساواة بين البشر وحرّيّة فرديّة... دون الاستدْلال على صدق ما ذهبوا إليه بأدلّة برهانيّة واستدلال عقلانيّ لا يبقي لمواقف خصومهم أيّ نصيب من المُحاججة الصّادقة التي لا يمكن للعقْل أن يقْبل سواها.
وبالنّتيجة، فإنّهم استبدلوا أدلّة سلطويّة (نقليّة مستوحاة من النّصوص الدّينيّة) بأخرى مماثلة لها (مقتبسَة من القانون الدّوليّ)، فسقطوا في نفس التّغييب لمقوّمات البرهنة والاستدْلال العقْليّيْن. ممّا سيترتّب عنه حتمًا اصطفاف الجمهور -إزاء نتائج هذا التّقرير- إمّا بالمُناصرَة الغوْغائيّة أو بالرّفض السّوقيّ. والحال أنّ مثل هذه الأمور لا تؤخذ بالعاطفة الهوجاء، بل بالتّأمّل والتّريث والتّقليب والتّمْحيص.
ولكن ذاك هو مآل كلّ نظر اتّفق على جهة الاسْتجابة لأمر السُّلْطان، وصورة الحال أنّ المؤذن بهذا التّقرير إنّما هو أعْلى هرم الدّولة، فأنّى لنا، والحالة على ما وصفْنا، أن نفْلت من الأدلّة السُّلطويّة، بل من قبْضة السُّلْطة ذاتها.
ولا يسعنا في هذا المقام إلاّ أن نسْتحْضر كلّ المخاطر التي تحفّ بوضْع العالم في خدمة السُّلْطان، وقد فصّل عالم الاجتماع ماكس فيبر تلك المزالق وبيّن مدى خطورتها على المجتمع في كتابه "العالم ورجل السّياسة". فكان الأحرى بعلمائنا ألاّ يهبوا علمهم، إن وُجد، خدْمة للسُّلطان حتّى يخرج تقريرهم هذا من الهزالة الأكاديميّة ومن السُّقْم المنْهجي أن لو أتى مثله طالب مبتدئ لعُدْنا باللاّئمة على مدرّسيه في الصفّ التّحْضيريّ.