ربما يعتقد البعض ان حكومةَ الشاهد قد تداركت موقعَها في المعادلات السياسية الحالية وذلك بتخطيها عتبة الثقة لفائدة وزير الداخلية... وَإِذْ يُعتبر هذا حدثا سياسيًا مُهمًّا من حيث الاستقرار ويوحي كذلك بوزن اللاعبين السياسيين في الوضع الراهن واستراتيجيات جلّهم وهشاشة تنظيم بعضهم، فانه أيضا يميط اللثام عن مدى تباين وجهات نظرهم بمسافات مختلفة من مشكلات البلاد الحقيقية والتي من المفروض ان تتمحور حسب رأينا حول أولوية تمتين مسار الدّمقْرطة بما تتضمنّه من :
(1) مواجهة فعلية لقضايا التنمية والتشغيل و
(2) حماية القدرة الشرائية من التدهور و
(3) إنشاء مؤسسات شاملة تشاركية تثمّن دور المواطن ولا تهمّشه وتسدّ ثغرات الفساد بأنواعه وتنئ بالبلاد عن مخاطر الرجوع الى الوراء بما في ذلك محاربة الاٍرهاب.
وكما نشرنا في العديد من المناسبات السابقة، انّ على الخطاب السّياسي، مهما كان مأتاه، ان يحترم وعيَ التونسيين وانخراطهم في الشأن العام بالمتابعة على الاقل. إِذْ في ظل تعاقب الحكومات وتعدد البرامج الانتخابية تبيَّن على سبيل المثال أنهم ليسوا معنيين فعلاً بتحقيق هدف "سعر صرف التوازن" على حساب ربحية الشركات المورّدة والوسطاء وعلى حساب رفاه المستهلكين، علما وأنّ هذا "التوازن" المنشود لم يتحقق في الدراسات التطبيقية المقارنة ولن يتحقق وأنه لا يدخل في حساب الناشطين الاقتصاديين المحليين من منتجين ومن مستهلكين.
هم ليسوا معنيين أيضا بتقليص الفارق بين نسبة الفائدة الحقيقية والاسمية في ظل نظام معلومات غير متكامل، ولا بارتفاع حجم اعادة التمويل للبنوك ولا بسياسات نقدية مُعلنة وسياسات مالية تعديلية غائبة من جهة الحكومة لم تُفلح الى حدّ الان في السيطرة على التضخم ولا في تقليص الفارق بين نسبة الادخار والاستثمار.
ولا يَعنيهم الخطابُ المَبني على الشرط وجواب الشرط: "اجتنبنا الكارثة التي كادت ان تقع" لو لم نُخفّض في سعر الفائدة (2012) ولو لم نرفّعها (2018) وذلك ما كنا نستطيع أن نقوم به". فهذا الخطاب لا يستقيم منهجيا ما دام غير مبرهن عنه وما لم يتمّ استوفاء كل الحلول الممكنة.
وفي كل المناسبات تُرمى الكرةُ في ميدان الحكومة التي من جهتها تبدُو غيرَ معنية بالمساهمة الفعّالة في مجابهة التضخم واسبابه الهيكلية، وتحفيز الاستثمار الخاص بسياسات صناعية فعلية ملائمة وبما أوتيت من صلاحيات. الحكومة ترمي من جهتها الكرة في ملعب البنك المركزي بالتخلي عن محافظها كحلّ ظرفي لمشكل هيكلي… إذ تبدو وكأنها في عجلة من أمرها وفي ضيق قدراتها المؤسسية، عينٌ على الظرف الحالي واُخرى غلى انقضاض دورتها السياسية بالوقوف رسميا عند أجل 2019.
ولعل الحكومات المتعاقبة لم تنجع تماما في التوفيق بين مقتضيات الاجليْن القصير والبعيد وهو تحدٍّ في حد ذاته. تُلاحق العديد من الأحداث. تقترض من الداخل والخارج وتتكبّد تبعات انزلاق الدينار وكأن نظام الصرف ليس من مشمولاتها. وكانّه امرٌ محتوم بالرغم من استفادتها بالدعم المالي الأجنبي حتى ولو لمْ يَفِ بالحاجة. تُقلِّصُ من كتلة الأجور للسيطرة على العجز وفي نفس الوقت تُرفّع في التحويلات الاجتماعية وفي الأجر الأدنى (للعاملين بالقطاع العام) وتعقد الالتزامات مع النقابة بالترفيع في الأجور مستقبلا بدون التأكّد من والبرهنة على استدامة عودة النمو…
وهذا شان الحكومات الأخيرة المتعاقبة التي استفادت سياسيا من عائدات الضرائب بدون الانتباه الى ما تٌفرزه بدورها من تشوّهات في الأسعار (وكأن حقيقة الاسعار اوتوازنَها المنشود لا يخصّ الاّ سعر الدينار وسعر الفائدة ولا يتعلّق كذلك بسعر قوة العمل وسعر رأسمال المادي والافتراضي وأسعار السلع!!)، وتُقلِّصٍ في حيّز المناورة للشركات المنتجة وللمستهلكين. كما استفادت كذلك من الدَّيْن ومن الاملاك المصادرة…
التونسيون غير المختصين في الاقتصاد ليسوا معنيين كذلك بسياسات ضريبية لا يعرفون مآلها باعتبار اهتراء البنى التحتية وتدهور الخدمات من تعليم وصحّة، ولا "بحقيقة أسعار المحروقات" حيث العائدات تبدو موجهةً لتغطية عجز المؤسسات العمومية الناجم عن ادارتها دون تغطية الفارق في تسعيرة السّوق.
فارقٌ تقلّص بصفة ملحوظة قبل إعادة النظر في المُستهدفين بالدعم، وكأنها قضيةٌ أُجّلت الى أجل غير معلوم! وقد يفهمها البعض أنها موجهة للانفاق التسييري ولكن كذلك تُقلّص العجز وهذا يُحسب سياسيا لفائدة الحكومة عند التقييم…فهذه القضايا الدقيقة يَفهمُ آلياتِها خاصّةُ الخاصّة ويمكن ان تُوجَدَ لها تفسيراتٌ ومبرراتٌ بالرغم من الاختلافات النظرية وفي المقاربات التطبيقية حولها.
وقد تكون هذه السياسات ضروريةً، لكن على الخطاب الرّسمي أن يفصح عن خارطة طريق واضحة المعالم، تتضمن حزمةَ الإجراءات، برمجتَها في الزمن، تكلُفتَها وأهدافَها وآثارَها المنتظرة. وقد لا تكفي المدةُ النيابية لحكومة الشاهد لتحقيق كل هذا، وقد يركن الى منهجية تقييم ذاتية قائمة على أهدافه المُعلنة في البداية. لكن قبل ذلك، إنّ الطريق ليست محفوفةً بالورود.
فالوضع الاجتماعي الى نهاية السنة سيظلّ هشًّا، والدينارُ مازال ينزلق، وأسبابُ الضغوط التضخمية باقية، والرفع في نسب الفائدة مُحتمل وآثاره على انقباض السوق النقدية متواصلة، واحتكار الدينار مازال واردا، وعدم ارتياح الشباب لمستقبله مسترسل، طالما الشروط الموضوعية لتفادي كل هذه التداعيات لم تُعالَج في كنف إطار تشاركي،
(1) يضبطُ حدودَ الفعل لكل طرف تجنّبا لتداخل الأدوار،
(2) يُترجمُ الوفاقَ الوطني "بقاعدةٍ لتوزيع الريع" وهي في آخر المطاف الترجمة الحقيقية للعقد الاجتماعي، و
(3) يكون الوطنُ نصب أعين الجميع. عندها نتحدث عن تدارك حقيقي…