الطّريقة الباجيّة في الجمع بين الرّئاستين وتيئيس الخوانجيّة من أن يكون الجيش والأمن مضمونيْن

Photo

أخْبار عن تعيين الوزير السّابق للدّاخليّة السيّد لطفي براهم مُستشارًا للشّؤون الأمنيّة، وإذا تأكّد هذا الخبر، فإنّ تبعاته ستكون مصيريّة بالنّسبة للبلاد. فمن المعْلوم لدى متابعي الشّأن السّياسي في تونس أنّ رئيس الجمهوريّة قد عبّر منذ حملته الانتخابيّة الرّئاسيّة سنة 2014 عن عدم ارْتياحه للحدود الدّستوريّة المُشلّة لعمل رئيس الجمهوريّة والمنصوص عليها في الدّستور الجديد للبلاد. معبِّرًا عن إرادته السّياسيّة في إدخال تحوير جوهري على هذا الدّستور.

بقي أنّ آليّات هذا "الإصلاح" ما فتئت تتلاشى مع مرور الأيّام، وخاصّة في المدّة الأخيرة حيث فقد رئيس الجمهوريّة الأغلبيّة النّيابيّ، فضلاً عن فقدانه مواقع التّسيير البلدية، والأخطر من ذلك أنّ حليفه الأساسي، حزب النّهْضة، انتقل منذ أشهر، وفي المواعيد السّياسيّة الهامّة، إلى حزب معارضة ما فتئ يجهض إرادة رئيس الجمهوريّة السّياسيّة. فأنّى، والحالة على ما وصفْنا، لأعلى هرَم الدّوْلة أن ينقّح دستورًا لا يمكّن رئيس الجمهوريّة من حكم البلاد وتسيير شؤونها؟

أي نعم، كان بإمكان الباجي قائد السّبسي أن يتحرّك في اتّجاه مزيد التّنسيق بين عمل الرّئاسات الثّلاث: رئاسة الجمهوريّة، ورئاسة الحكومة ورئاسة مجلس النّوابّ، باعْتبار أنّها منبَثقة عن نفس التّنظيم السّياسي، حزب نداء تونس، ولكن ما حصل لم يكن ليُتصوّر حتّى من صاحب كتاب الأمير ذاته: التحَق رئيس الحكومة إلى شقّ المُعارَضة الشّخْصيّة –حتّى لا نقول العداوة- للسيّد الباجي قائد السّبسي، وليّ نعْمته وأبوه الرّوحيّ!

وبالنّتيجة، فإنّ وضع البلاد الذي كان يشكو أصْلا من حالة الشّلل الاقتصادي، والأرقام في هذا الصّدد أدلّ من أن تُفصَّل هاهنا، ازداد تردّيًا حيث أُصيب بفعْل القطيعة بين الرّئاستيْن، وباعتبار سلْبيّة رئيس مجلس النوّاب الشّخْصيّة والمعْروفة عنه من قبل كلّ مَن تعاملوا معه في سابق الأيّام، بشلل سياسيّ ومؤسّساتيّ.

ما العمَل إذًا، والدّستور الحاليّ للبلاد يرتهن فعل أعلى هرم الدّولة إلى تزكية رئيس حكومة أعلن عداءه ورئيس برلمان غير قادر نفسانيًّا على اتّخاذ أيّ قرار شخصيّ، فحتّى الفصْل 80 –المُخصّص للأخْطار الدّاهمة يتشرط موافقة، بل وتشريك رئيس الحكومة، وعلى نحْو ما البرلمان، في تسيير دواليب الدّولة؟ ما العمَل وعوْدة منظومة الحكم "الإسلامويّة" التي بدأت تكشّر على أنيابها، لا بفعل تصريحات رئيسها الانتصاريّة، وتحرّك "شيختها" –ومرشّحتها لرئاسيّة 2019 (إن تمّت)- واضحة المقاصد؟ ما العمل والخيمات الدّعويّة تحت سامي إشراف أصحاب اللّحيّ الطّويلة الأتْقياء قد انتصب مجدَّدًا في قلب المدينة النّابض، "باب بحر"؟ ما العمل وقد اسْتحال الشارع الرّئيسيّ للعاصمة، ورمز سيادة الدّولة، أو هكذا أُريد له على الأقلّ، باحتوائه لمقرّ وزارة الدّاخليّة؟ ما العمَل ومواجهات سنتي 2012 و2013 بين شقيّ الشّعب التّونسي، المتأسلمون من ناحية والحداثيّون من ناحية أخرى، آتية لا ريب فيها؟ ما العمل وعملاء وأعْوان الدّول العُظمى، وحتّى الأقلّ عظامة، تجوب وترتع في البلاد، وتغْتال حين يعنّ لها ذلك، حرّة طليقة، معرّضة مصير البلاد والعباد إلى المجهول؟

الوَضع على ما وصفْنا يبدو ميؤوسًا منه، ولكنّ الرّجل الذي وضعته الأقْدار على رأس هرم الدّولة له من التّجربة السّياسيّة والملازمة لأبيه الرّوحي، الزّعيم الرّاحل الحبيب بورقيبة، ما يجعله يسلك في المعارك السّياسيّة الوعرة وفْق مبدأين يمكن اختزالهما في عبارتين تردّدتا على لسان المجاهد الأكْبر في أكثر من مناسبة: "سياسة المراحل"، و"الدّوَام ينْقب الرّخام". فلا سبيل، إلتزامًا بهذين المبدأين للخنوع والقبول بأمْر الواقع!

إن لم يكن ثمّة مخرج مؤسّساتيّ من المطبّ الذي تردّت إليه البلاد، فلننْظر الرّافد الثّاني لسلطة الدّولة، أعني العُنْف الشّرعيّ. من بين الصّلاحيّات القلائل التي منحها دستور البلاد لرئيس الدّولة: الإشراف على الأمن الخارجي للبلاد، المتمركز أساسا حول القوّة العسكريّة. والحقيقة أنّ المؤسّسة العسكريّة منذ ارتقاء رئيس الجمهوريّة إلى الحكم، وبفعل السّمعة المرموقة التي يحظى بها المكلّف بهذا الجانب في الرّئاسة، لم تخرج البتّة عن نظر رئاسة الدّولة.

بقي أنّ وزارة الدّاخليّة، التي عرفت ما لا يقلّ عن السّبعة وزراء، كلّهم تقريبًا وبدراجات متفاوتة، تعلّقت بهم شبه مستوْجبة للمحاسبة القضائيّة، في إطار ممارستهم لمهامّهم. ومردّ ذلك خضوع هذا القطاع للتجاذبات السّياسيّة. ولمّا كان من الوَهم بمكان ادّعاء القضاء على أمر الواقع هذا، فإنّ الواقعيّة البورقيبيّة تقود إلى العمل على الاسْتفادة منه وتوظيفه "لمصْلَحة الوطن". كيف ذلك؟ بكسْب النّقابات الأمنيّة، وهي الأصل في التّوْظيف السيّاسيّ للمؤسّسة الأمنيّة، أو على الأقلّ الأكثر تمثيليّة وفاعليّة منها، إلى الصفّ الرّئاسيّ. وذلك بتعْيين مَن نادت بالولاء له، مسنودة في ذلك طبعًا ببعض الأطراف الدّاخليّة، ولكن خاصّة الخارجيّة، ضمن الفريق الرّئاسيّ. الرّهان واضح والنّتيجة مضمونة، فالطّريقة التي عُومل بها الرّجل من قبَل رئيس الحكومة وفريقه، الذين ذهبوا إلى حدّ اتّهامه بالتّخطيط لعمليّة انقلابيّة مستحقّة للحكم بالإعدام، لا يمكن أن تتمخّض إلاّ على شعور عدائيّ عميق.

بقي أن نتساءل عن مدى مجازفة رئيس الجمهوريّة لا بمستقبله السّياسيّ فقط، في حالة إقدامه على هذه التّسمية، بل على مصير هذه الدّيمقراطيّة النّاشئة، والإجابة تبقى رهينة عنصرين: أوّلهما: مدى إحْساس أعلى هرم الدّولة بعظم هذا الخطر الدّاهم، الذي لم يتمكّن أحسن دستور وُضع في العالم من استشرافه؛ وثانيهما: مدى تطابق حكميْ السّبسي وبورقيبة بشأن أهليّة هذا "الشّعب التكريم" (كما كان يحلو لسي الحبيب أن يسمّيه) في التّنعّم بالعيش في كنف الدّيمقراطيّة الفردوْسيّة....

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات