من مطبّات الثُّنائيات والتصنيف المنهجي..

Photo

توصَّلَ جزءٌ من النخبة الإعلامية والسّياسية خلال السنوات الاخيرة الى اختزال ضمني للرأي العام في ثُنائية "مع أو ضد". وإذْ أكنُّ الاحترام للآراء والمواقف الخاصّة، فإنّ مبدأ التصنيف الثنائي للاراء أو للاشخاص، خاصة عندما يكون مُسبقا وثابتا، لا يستقيم لأنّه لا يسع لاحتواء تعدد أبعاد الواقع وشموليتَه وجدليّتَه ومتغيراته، بقدر ما يعكس بوادر أزمة الثّقة بين الأشخاص والمجموعات حيث أهم مظاهرها حاجة الفرد لمعرفة "هوية المُخاطب" وتحديد نواياه ومآربه، فيغيب الحوارالحقيقي، وتنثشر الاشاعات ويُلغى الآخر مما يثير الكراهية والعُنف بأنواعه.

وقد تكُون بوادر أزمة الثقة هذه راجعةً على الاقل إلى :

(1) الإرْباك الذي تحمّلهُ التونسيون ليالٍ طوالاً في الأسابيع الأولى من شهر جانفي 2011 وما تلته من أحداث غريبة الاطوار ظلّت راسخة في الذاكرة، وتلكّؤ السّلطة أنذاك في الاستجابة الى التعاطي المُنتظَر مع مصير البلاد، وبعض التصريحات العرجاء من هنا وهناك ولكن كذلك الحملات الانتخابية السابقة لأوانها والتي روجّت لخطاب قائم على التشهير بالآخر، واستعمال مُفردات حمّالة للشكّ لم يتعوّد بها التونسيون مثل "الاختراق الامني"، و"الامن الموازي" و"العمالة للخارج" و"الانتهازية" و"تقاسم الكعكة" و"الحُكم بالنوايا"...و

(2) عُزوف بعض النخب المثقفة عن الاخذ بالمبادرة والانخراطِ في الشأن العام…

إِرباكٌ وفراغٌ وتقسيم استُثمِرَ جُلّها مُنذئذ في نسج استراتيجياتٍ بل قل مناورات قد تكون خلفيتُها لدى البعض السطوَ على مفاصل الحكم ولدى البعض الاخر الاستفادةَ من فُتاتها، وضحيتُها المواطنَ الذي تضيق به السبلُ ويفقد الثقة في القائمين على الشأن العام.

وكما هو مُعلنٌ، انخرط فيها (أي هذه الاستراتيجيات)، جزءٌ من الإعلام خاصةً المرئي (باستعمال الصورة وصناعة صُنَّاع رأي وتضخيم الاجزاء وإخراجها من سياقها وعدم صيانة مفردات التغيير والانتقال والمواطنة..) وهي قائمة على الغاء الآخر وتشويهه دون الاقتصار على الرأي او البرامج والحلول والبدائل ومناهج التقييم الموضوعية. كما لعبت بعضُ الكائنات السياسية ذات الحنين الشديد الى ايديولوجياتها أدورا هامةً في زرع بذور هذه الازمة،...

ويمكن للعقلانيين والوجهاء وكلّ الناس أن يتفادوا هذه المطبّات، وأنْ يستثمروا الفضاء الرحب للتعبير والتفاعل بتلقائية وأن يُدْلُوا بدلْوهم في هذه المرحلة الانتقالية الحسّاسة، دون اكتراث بهذه التصنيفات المُفتعَلَة. فالذي تحتاجه تونس هو النئي بأبنائها عن المعارك المُزيّفة والمنهكة للمُقدرات.

وامّا الذي يجمع بينهم اليوم يفوق بكثير ما يُفرّق بينهم مقارنةً بالعديد من المجتمعات. وما تمْنحُه تونس اليوم من واقع مُلْهِم ومن ثراء القضايا العادلة وتنوّعها ومن تعدّد مشاربها ومن تحدّيات نبيلة يمكن رفعُها ومن أفاق رحبة تصوّر مستقبلا زاهرا للبلد، من المفروض استثماره والاستفادة منه، لا التفريط فيه.

ولا يمْكن ذلك الاّ إذا تجرّدوا من الاعتبارات الشخصية الضيقة والتصنيفات المٌسبقة وتفادوْا الاحتياط َالمُبالَغ فيه وتجنّبوا الغوصَ في هامش الاحداث …

تونس للجميع…

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات