ذكرت في تعليقي على ما سموه بـ”تقرير الحريات الفردية والمساواة” من وجهين دون الكلام في مضمونه، ليس من منطق رفض الإصلاح القانوني -التشريعي-الذي هو من الضرورات الدائمة في كل المجتمعات الحية، بل من منطلق استعماله استعمال الحق الذي يراد به الباطل: فلا علاقة له بالإصلاح القانوني. وإذا أثبت ذلك، تبين أنه مشروع فتنة وليس مشروع إصلاح.
لو كان التقرير عملا فكريا مثلا لمركز بحث، لما كان عندي وجه للاعتراض عليه، حتى لو كان فرديا، وحتى لو كان معلوم القصد غير النافع، وحتى لو كان معلوم الطابع المؤامراتي ضد ما بدأ يتحقق من صلح بين حساسيات الشعب السياسة والفكرية.
لكنه قدم بوصفه مبادرة من رئيس الدولة، هادفة لتحقيق التناسق التشريعي مع مبدأي المساواة والحرية الواردين في الدستور الحالي، وفي نفس الوقت، مواصلة جهد الإصلاح التشريعي البورقيبي. وسبق أن بينت أنه لا علاقة له بالإصلاح البورقيبي.
همي يرتكز هنا على مسألة مضاعفة أساسية في الإصلاح التشريعي.
المسألة المضاعفة:
التناسق بين مبدأي الحرية والمساواة الدستوريين والتشريعات له بعدان:
• أولهما طبيعته.
• والثاني إجراءاته.
فالقوانين التي يراد إصلاحها لتتلاءم مع مبادئ الدستور، لا تستمد شرعيتها من العلاقة بين نصين:
• نص الدستور
• ونص القوانين
بل من علاقة بين شرعيتي النصين إلى من تعود. وعندئذ تتجلى الإجراءات المناسبة للإصلاح.
لو كان الأمر مقصورا على علاقة بين نصين، لكانت القضية تابعة إما لفقه القضاء، كأن يتطلب حكم محكمة دستورية، لكنه يتجاوز ذلك إلى علاقة بين شرعيتين:
1. هي مرجعية مبادئ الدستور.
2. وهي دور السلطتين التشريعية والتنفيذية في علاجها كما يحدده الدستور.
فيكون المركز هو الدستور في إحالتيه إلى ما قبله وما بعده.
فما يؤسس مبادئه ويتأسس على مبادئه، هو مجال الإشكال وليس العلاقة بين نصه ونص القانون من دون اعتبار مرجعية مبادئ الدستور التي هي مصدر المبادئ التي تؤسسه، وما حدده من أدوار للسلطات التي هي مصدر دورها في القوانين.
ولهذه العلة، حصرت نقاشي لهذا التقرير في شرعية صاحب المبادرة وأهلية المكلفين بصوغها:
فتصبح المسألة مسألة دستورية ومسألة علمية.
• دستوريا:
هل مسألة التناسق بين التشريعات الموجودة ومبادئ الدستور مسألة من مشمولات نظر رئيس الدولة؟
• وعلميا:
هل هي مسألة لجنة فنية؟ أم خيار قيمي لحوار وطني عام؟
وقد تجاوزت في المسألة العلمية إلى التشكيك في أفراد اللجنة من حيث الكفاءة التقنية، لكن ذلك يعتبر أمرا عرضيا، قد تكون مهمة لمن سلم مبدأ العلاج بلجنة قبل الحوار الوطني، وبلجنة من لون واحد لا تعبر عن حوار وطني انتقل من اتفاق على الإصلاح وغاياته ومر إلى العلاج التقني التوافقي بمختصين أكفاء.
فالتناسق بين مبادئ الدستور والتشريعات المباشرة المنبثقة عن السلطة التنفيذية بوصفها مشروعات تشريعية لا تصبح قوانين من دون موافقة السلطة التشريعية. وإذن فالتناسق مشروط بعلاقة بين القوى السياسية الممثلة التي تعبر عن إرادة الجماعة حكما ومعارضة في علاقة بما يؤسس الدستور ويتأسس عليه.
فنجد أنفسنا أمام معادلة كل تشريعي في كل جماعة تؤمن بدولة القانون:
الدستور في القلب، وقبله القوى السياسية والمرجعية التي بمقتضاها حصل توافق بينها لوضعه نظاما لما بينها من علاقات مرجعها الدستور بمرجعياته. وما بينها من علاقات يتجلى في أمرين بعد الدستور:
• الحكم
• وإدارة الدولة المباشرة.
خمسة مستويات:
• الدستور في القلب .
• وقبله مستوى القوى السياسية ومستوى المرجعية القيمية سواء عرفت دينيا أو فلسفيا
• وبعده مستوى ممارسة الحكم (حكما ومعارضة) بوصفه مشرفا على ممارسة إدارة مؤسسات الدولة الساهرة على الرعاية والساهرة على الحماية بما يرضى عنه الشعب وبمقتضى القانون الشرعي.
والقصد بالقانون الشرعي، هو القانون الذي يحكم به ويعارض القوى السياسية بمقتضى الدستور الذي يعبر عن فهوممها للمرجعية المشتركة وإلا لكانت الجماعة ليست جماعة واحدة ذات دولة واحدة سيدة سياسيا وحضاريا، أي مستقلة روحيا وليست تابعة لدولة أخرى فتكون محمية كما سنرى في حالتنا هذه.
ما يحصل هو محاولة القفز على دور العنصرين المتقدمين على الدستور، أي القوى السياسية والمرجعية في ما يتعلق بما يراد إصلاحه من القانون، والعنصرين المتأخرين عن الدستور أي الحكم والسهر على مؤسسات الدولة المباشرة (العشرة: خمسة للرعاية، وخمسة للحماية) في ما يتعلق بظهور ما يراد إصلاحه من التناقض.
فالحاجة إلى مراجعة القوانين تظهر في السهر المباشر على وظائف الدولة في الجماعة:
في الرعاية:
• تكوينا (التربية النظامية والاجتماعية)
• وتموينا (الاقتصاد والثقافة)
• وأصلا لها جميعا (البحث العلمي)
وفي الحماية:
• داخليا (القضاء والأمن)
• وخارجيا (الدبلوماسية والدفاع)
• وأصلا الاستعلام والإعلام.
ثم تصاغ هذه التناقضات من أجل إصلاحها حتى يحقق الحكم (بشقيه مباشر الحكم والمستعد له أو المعارض) شروط أفضل أداء لوظائف الدولة العشرة التي ذكرناها. فيكون الحكم (والمعارضة) بنحو ما ساهرا على دولة القانون ودولة تكييف القانون ليمكن من أفضل طرق سد الحاجات في الرعاية والحماية.
لكنه ليس بديلا من الجماعة، بل هو ممثل للقوى السياسية والمدنية ذات الشرعية الانتخابية التي تحاسبه (الأحزاب والمجتمع المدني) التي تتصرف هي بدورها من منطلقين:
• مباشر هو المصالح السياسية .
• وغير مباشر هو القيم الثقافية والحضارية التي تمثل روح الجماعة الحرة والسيدة سياسيا وحضاريا.
وهذا هو الامر المضاعف الذي يقفز عليه السبسي حتى لو قبلنا بأن يكون له حق المبادرة بذلك الأسلوب في مثل هذه المسائل الجوهرية التي لا تتعلق بأهواء الحاكم بل بقيم الجماعة.
وهنا أسأل الأسئلة الأربعة التي يريد القفز عليها هو مافية الحداثة القلوبة:
1. من يطلب هذه الإصلاحات المزعومة؟
بقية الأسئلة:
2. هل السهر على وظائف الدولة العشرة يقتضيه؟
3. هل القوى السياسية متفقة على تغيير مرجعية الدستور؟
4. أخيرا، هل الأمر في الأخير هو تقديم قراءة للمرجعية وليس تحقيقا للتناسق مع الدستور؟
وبذلك تتبين الغاية من العملية: ليس تحقيق التناسق مع الدستور، بل تغيير مرجعيته.
ولا إشكال عندي في تغيير المرجعية، لكن ذلك يقتضي كتابة دستور جديد.
فالمشكل ليس في:
1. وظائف الدولة العشرة المباشرة.
2. وليس في السهر عليها (فالمبادرات القانونية تحسم بالبرامج الانتخابية).
3. وليس في الدستور لأنه حدد مرجعيته.
4. وليس في القوى السياسية لأنه لا توجد قوة معتبرة تمثله.
لم يبق إذن إلا حل واحد له علتان:
هذه مبادرة فتنوية هدفها إرجاع تونس إلى صدام حضاري، غايته التقرب من السند الخارجي لقلة لا تمثل إرادة الجماعة. ولذلك فهي لا تلجأ للإجراءات التي وضعها الدستور نفسه للإصلاح الدستوري والقانوني بحسب ما يريده الشعب، بل هي مواصلة للتحديث العنيف.
وهذا السلوك لا علاقة له بالإصلاح القانوني ولا بالتنسيق في النظام القانوني العام ولا بالحداثة خاصة، بل هو من جنس ما يسمى بـ”مهمة التحضير” التي كان الاستعماريون يبررون بها ضرورة تغيير ثقافات الشعوب وحضاراتهم لفرض قيمهم وحضارتهم على من يسمونهم “انديجان”.
السبسي وشلته من بقايا الحركيين وأدعياء الحداثة والتنوير هم في الحقيقة قلة تستقوي بالدولة العميقة ومافياتها الاقتصادية والإعلامية وحتى النقابية وبالسند الاستعماري لتغيير المرجعيات التي تحدد ثقافة الشعب التونسي الذوقية والروحية حتى يتواصل استبدادهم بالبلاد والعباد.
لكن ذلك لم يعد ممكنا وخاصة بعد ثورة الشباب بجنسيه.
الأمر في هذه المحاولة الفتنوية لا علاقة له بصراع وهمي بين الإسلام والحداثة إذا فهمت قيمهما الكونية، بل هو محاولة لإعادة السلوك الذي ثار عليه الشعب ولن يقبل بأن يبقى قلة من الحركيين وأحفادهم يحكمونهم ويغيرون مرجعياتهم الحضارية.
ومرة أخرى أريد أن أذكر السبسي بأنه إن واصل هذا العمل، فهو يسعى إلى خاتمة مشؤومة عليه. لا أخاف على الشعب التونس بكل حساسياته من أي مناورة من هذا الجنس. ما فشل فيه بورقيبة رغم ما كان له من “شرعية” تاريخية، وما فشل فيه ابن علي رغم ما كان له من قوة مافياوية فلن ينجح فيه السبسي.
هو الآن يهدم ما يمكن أن يكون له من شرعية نتجت عن الانتخابات الأخيرة على ما فيها. وأعده إن أمد الله في عمره وترشح في الدورة المقبلة فسيغلبه حتى من كان لا يعد من “معتبري الزمان” بلغة الغزالي.
كنت أتصور أنه كان يريد أن يكفر عن ماضيه، فإذا به سيزيده سوادا لسماعه نصحاء السوء.