لقد كسرت الثورة احتكار المجال السياسي من قبل الحزب الأوحد، والضبط الأمني من خلال تحجيم دور وزارة الداخلية ومحاولات إصلاحها وردّ الاعتبار للقضاء، ولم يبق للنظام سوى الضبط الإيديولوجي عبر وسائل الإعلام والمدرسة والبروبغندا... وتحويل الصراع على السلطة إلى صراع إيديولوجي هووي...
وبقيت الحركة الاجتماعيّة الناشئة وغير المؤطّرة والتي قامت بالثورة (وهي شبابيّة في أساسها) تبحث عن تعبيرتها الايديولوجيّة الأمثل، فانحرف بعضها إلى السلفيّة الجهاديّة (وهي ثوريّة في جوهرها)، وانحاز بعضها الآخر إلى الهروب اليائس إمّا بالانحراف السلوكي أو بالحرقة إلى أوروبّا...
وفي هذا الإطار، نقول إنّ التقرير يحارب "النمط التونسي" بمعنى أنّه يحارب مجتمعاً صنعته دولة الاستقلال على قياسها، أو هي حاولت على الأقلّ هندسته حسب مقتضيات إيديولوجيّتها الوطنيّة، والحال أنّ حزب "نداء تونس" يدّعي حمايته بوصفه الوريث المعلن لحزب الدستور ومن بعده التجمّع الدستوري الديمقراطي "حامي حمى الوطن والدين" كما درج في أدبياته، بل إنّ برنامجه السياسي هو الحفاظ عليه !
إنّ المسألة في نظري سياسيّة بامتياز: فنحن إزاء صراع سياسي يراد تحويله إلى صراع ايديولوجي بين ايديولوجيا وطنيّة متهاوية وأخرى إسلاميّة صاعدة، يساعد على ذلك سياق دولي وإقليمي يتميّز بالحروب الأهلية الداخلية في البلدان العربيّة وخوف أوروبي من هجوم اللاجئين على حدود بلدان شمال المتوسّط...
وها نحن معلّقون بين إيديولوجيّتين تدّعي كلّ منهما تمثيل حركة اجتماعيّة هي أمّ الثورة وابنتها في آنٍ، لكن لا وشائج لها قويّة بمن يحكم وبمن يسعى إلى الحكم، وكأنّنا نعيش في تونسيْن لا تونس واحدة: مجتمعان تحت سقف واحد !
هذا هو الإطار النظري العامّ الذي أدعو إلى فهم تقرير لجنة الحريّات العامّة والمساواة في إطاره... وهو لا يُعفي من تناوله في سياقاته الأخرى، السياسيّة والاقتصاديّة والقانونيّة .