هنالك انزلاقات من طبيعة معرفية وانحرافات من طبيعية منهجية وسقطات من طبيعة أخلاقية في خطاب بعض النّخب السياسية البارزة هذه الأيام. وذلك بمناسبة الجدل القائم حول مسألة "المساواة في الميراث" بعد الجدل الذي قام حول ما عرف بـ"تقرير بشرى" الذي لم يزفّ للشعب البشرى.
تتمثل تلك الانزلاقات والانحرافات والسقطات في ممارسة التعالم والوصاية على الشعب والتذاكي الاستغبائي في استحضار مبادئ الدستور ذات العلاقة بالمسألة المطروحة.
من علامات الانزلاقات المعرفية بخصوص هذه القضية هو الحكم خطأ على المنزلة المعرفية للوعي الشعبي بهذه القضية بكونه وعيا ما قبل علمي وما قبل حداثي بل غوغائي وسوقي. والخطأ المعرفي (الابستمولوجي) الموجود في هذا الحكم هو إصدار حكم العقل النظري أو حكم الفهم l’entendement على قضية هي من مشمولات العقل العملي الخاص بالأخلاق وومن مشمولات ملكة الحكم على السامي والمقدّس في منظومة الاعتقادات.
إنه من قمة سوء الفهم بل الغباء نفسه القول مثلا أنك كلما تبنيت أكثر قضية المثليين وحقهم في الزواج وتكوين أسرة وتبني أبناء وكلما تبنيت أكثر النظرة الجندرية التي تقول بأن الجندر (الجنس) هو نتاج ثقافي أكثر منه حقيقة بيولوجية وسيكولوجية تكوينية كلما كنت أكثر علمية وعقلانية ومعقولية وحداثية.
أو أن تقول أنه كلما أمعنت في تدنيس المقدس والحكم عليه تاريخانيا بأنه مجرد إفراز لمرحلة ما في تطور الوعي البشري والتكون الأنتروبولوجي كلما كنت أكثر قربا من العلمية والحكم العملي الصائب. هذا خلط وتخليط و"تجليط". أكبر العلماء في تاريخ البشرية (أي أكثرهم ذكاء ونبوغا) في الشرق والغرب كانوا ولا زالوا مؤمنين بالله وبالغيب ومقدسين لكلام الله ومحترمين لتعاليم الدين عندما تكون معبرة عن روح الدين الحق التي هي حكمة كلها وعدل كلها ورحمة كلها.
يقول واحد من أكبر فلاسفة العقلانية النقدية الحديثة والذي سخر حياته لكتابة آلاف الصفحات في نقد العقل الخالص والعقل العملي وملكة الحكم، وهو الفيلسوف الألماني إمانويل كانط: "وضعت حدا للعقل لأفسح في المجال للإيمان". وهو يعتبر وجود الله وخلود النفس وحرية الإرادة الإنسانية من مسلمات العقل العملي وبدونها لا يمكن بناء الأخلاق (المعاملات الاجتماعية العادلة) على أسس عقلانية. ويقول كانط: "شيئان يملآنني إعجابا: النجوم المرصّعة في السماء فوق رأسي والقانون الأخلاقي في صدري". ويقول كاستريوديس في كتابه "مؤسسة المخيال الاجتماعي": "إنه لا شيء أخطر على الأخلاق والممارسة العملية من تطبيق قواعد العقل النظري (العلمي) على مسائل العقل العملي".
وبناء عليه، فإن للعقل العملي قواعده الخاصة التي لا تخضع لضرورات العقل العلمي، لأن العقل العملي ينبني على مفهوم الحرية (كانط) والحرية التي تفرض قانونها على المجتمع ليست حرية بضع أشخاص أو أقلية، بل حرية الأغلبية أو عموم الشعب. والديمقراطية نفسها التي هي مفهوم حديث، تنبني على هذه المصادرة الميتافيزيفية (التي لا يمكن البرهنة عليها بطريقة منظمة أبدا،بهذا قال كانط وبهذا قال سبينوزا أيضا في كتابه "رسالة في اللاهوت والسياسة") هذه المصادرة هي الحرية.
فكل الاحترام والاحترام الأعمى العميق لحرية الشعب في أن يختار ما يراه مناسبا له. وهنا نصل إلى المخالفة الأخلاقية لبعض النخب السياسية والثقفوت العلمانجي. وهي عدم احترامهم لاختيار الأغلبية النابع من مفهوم وجودي وإنساني أساسي وهو الحرية. فهم في قمة سوء الأدب والصلف والبربرية عندما يصفون الأغلبية المختلفة عنهم بالغوغائية.
أما الانحراف المنهجي فهو مشتق من الانحراف المعرفي الذي سبق بيانه. ويتمثل في قراءة عضينية اجتزائية رعوانية للدستور. الدستور في جوهره هو الابن الشرعي للحرية وثورة الحرية والكرامة. والحرية تعني الطابع الأصيل في الاختيار لا الخضوع لإملاءات، أوروبية كانت أو صهيونية أو غيرها. الدستور قال في ديباجته إنه يؤيد "تمسك الشعب بتعاليم الإسلام".
ولم يقل إن هذه التعاليم هي فقط أداء الصلاة وذبح كبش العيد. قال التعاليم مطلقا. والمعروف عن الإسلام أنه ليس ذا طابع كهنوتي مسيحي علماني (ما لقيصر لقيصر وما لله لله) يحصر المسألة الدينية بين جدران الكنيسة، بل هو ممارسة فردية وجماعية واجتماعية للأوامر الإلهية. الدولة لا تحشر نفسها في حياة الأسرة. العلاقة في الأسرة ليست علاقة مواطنة بل علاقة بيولوجية ووجدانية وروحية ومادية. والدين مرحّب به في الأسر التونسية المسلمة. بل هو عامل وئام وانسجام وصلح وإصلاح وصمام أمان أمام تفكك الأسرة وانحلال أخلاقها.
بعد الديباجة يأتي الفصل الأول من الدستور ثم الفصل 6 وكذلك الفصل 39 المذكرة بـ والمؤكدة على إسلامية الشعب والدولة (نقول تونس دولة إسلامية وليس دولة دينية، فالدولة الإسلامية (التي تنتمي لمنظمة الدول الإسلامية) دولة مدنية وليست دينية) وعلى قداسة الدين والتزام الدولة بضمان تلك القداسة، وكذلك بترسيخ الناشئة في هويتهم العربية الإسلامية، ليس عبر مشوي عيد الأضحى وفول عاشوراء وبريك وكفتة رمضان، بل عبر مضامين وقيم إسلامية أصيلة.
فليس للنخب السياسية والأحزاب خيار في أن تحترم قداسة الدين الإسلامي واختيار الأغلبية بناء على حريتهم الأصلية في أن تنتظم علاقاتهم الاجتماعية وفق النموذج الإسلامي القرآني.
يمكن للأفراد أن يفكروا تفكيرا مختلفا، وأن يتأولوا الآيات والنصوص تأويلا مختلفا، وأنا شخصيا من المولعين بالقطع مع الكسل الذهني في فهم النصوص، ويمكنهم أن يتسللوا من فجوات النصوص تسلل اللصوص، للحصول على الفلوس، ويمكنهم حتى أن يكفروا بالله وبرسله، فهذا حق مكفول طبيعيا وحتى قرآنيا (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ولكن ليس لهم أن يفرضوا ذلك على الشعب تحت أي ذريعة كانت، فهذا كفر بالثورة المنبنية على قيمة الحرية التي هي المفهوم الأساسي في بناء كل قواعد ونواتج العقل العملي.
ولذا، ليس مفروضا على النخب التي تقود أحزابا سياسية أن تعمل على رفع حرج مصطنع بتبني قول مزدوج ليس هنالك أي فائدة عملية لا لهم ولا للشعب من نصفه الأول: وهو قولهم "نحن مع المساواة في الميراث"، بينما لا يصح بمفهوم الحرية والديمقراطية والدستور إلا تطبيق نصفه الثاني وهو "لن نطبق على الشعب إلا ما يختاره لنفسه بنفسه في كل المجالات بما في ذلك مجال التصرف في أموال الميراث". هذا الوعي الذي يفرض القول المزدوج وعي شقي ووعي وصائي ووعي يضمر مؤامرة على وعي الشعب واختيارات الشعب، يكفي أن تحصل أول انتكاسة أو أول انقلاب على الديمقراطية حتى تفرض الأقلية إرادتها على الأغلبية.
ليس للأقلية إلا حل واحد لتستمر في إنعاش أملها في تغيير إرادة الأغلبية، وهو نشر فكرها وتقديم حججها وإشاعة ثقافتها بطرق ديمقراطية لا هرسلة ولا تلاعب فيها بالرأي العام من أجل محاولة الوصول يوما إلى تغيير القناعات، ومن ثمة تظهر إرادة شعبية حرة جديدة قد تكون متطابقة مع رؤية النخب، وغير هذا هو إجرام وسرقة للمعنى وللحرية ولصوصية وعمالة وتبعية.