الجزء الثاني :السلفيتان تملآن الفراغ

Photo

"الطبيعة تأبى الفراغ " مقولة تنسحب على الأوضاع الاجتماعية والسياسية والإنسانية ، وبالتحديد الفراغ الفكري والوجداني لدى الشباب الذي كان محل تجاذب بين تيارين سلفيين : السلفية التي تدعي التدين والدين منها براء والسلفية التي تدعي الحداثة والحداثة منها براء وهما سلفيتان متغولتان مدمرتان يرومان تحقيق نفس الأهداف رغم تناقضهما، وينتهجان نفس الأسلوب القمعي لفرض قناعتهما. وكل منهما تتغذى من الأخرى، وبها تبرر وجودها ، فما حقيقة السلفية ؟ وأين نقاط التقاطع من حيث الأهداف والأسلوب ؟

أولا ـــ السلفية : استنساخ وإسقاط وفرض، فالسلفيون يزعمون امتلاك الحقيقة المطلقة التي لا تقبل التنسيب ويستنسخونها من زمانها أومن مكانها ويسقطونها على الواقع المغاير، ويعملون على فرضها على الآخر،استنادا إلى حجة القوة لا قوة الحجة، وهي موجودة في كل الأديان وفي كل المذاهب وهي مصدر الإرهاب الفكري أو الدموي.

ثانيا ـــ نقاط التقاطع :بين الإسقاط في الزمان والإسقاط في المكان

1ـــ السلفية الدينية إسقاط في الزمان

تعمل السلفية الدينية على استحضار واستنساخ وإسقاط وفرض قيم القرن الأول للهجرة عهد الرسول والصحابة على المجتمعات العربية والإسلامية ولو بعد 14 قرنا انطلاقا من مقولة " فلا يصلح هذا الأمر إلا بما صلح به أوله" وكأن الزمن ــ بما فيه من علاقات وتطورات ـــ ثابت، ولا فاعلية له وعليها أن تجند الشباب للجهاد بقوة السلاح من اجل أسلمة الدولة.

2 ــ السلفية الحداثية : إسقاط في المكان

نفس الأسلوب تتوخاه السلفية الحداثية فهي استحضار واستنساخ وإسقاط وفرض لقيم الليبرالية الجديدة التي أفرزتها الاحتكارات الرأسمالية العالمية في أمريكيا وفي أوروبا وصارت تعمل على عولمة الاقتصاد وعولمة الثقافة ،وهذه تتناقض مع عالمية الثقافة التي تحترم هويات الأمم .

فأنتجت قيما جديدة محورها الفرد "الأنا " ولا أهمية للجماعة بداية من الأسرة وصولا للمجتمع ، وحتى هذا الفرد تشيّأ فهو آلة صغيرة في دولاب أكبر"الإنسان الآلة "ولا أهمية في نظر هذه السلفية للمكان وللظروف المجتمعية وللقيم السائدة ، فيجب أن تفرض قيمها بالقوة أيضا، لكن ليس بالحشد السلفي الديني بل بقوة السلطة الحاكمة، فالسلطان لا يذهب للجماهير بل هي التي تنقاد إليه طوعا أو كرها .

ثالثا ـــ استراتيجية السلفية الدينية : مضامين وأسلوبا وأهدافا

أحدث الإسلام تحولا عميقا في نظرة المجتمع للمرأة، في دورها وفي علاقتها بالرجل ، فقد أخرجها من وضعية المتعة والمتاع إلى مستوى الشريك الفاعل ،فتتقاسم الأدوار مع قرينها لبناء الأسرة، النواة الأولى للمجتمع، لكنها لم تصل إلى المساواة التامة معه لأن العلاقات المجتمعية ــ الفلاحية الحربية ـــ مازالت تقوم على ساعد الرجل فأتى القانون القراني<< الرجال قوامون على النساء>> عاكسا لهذا الواقع .

ومن المنطقي أن يتغيّرهذا القانون بعد الثورة الصناعية والثورة العلمية والإعلامية واكتساب المرأة للمعرفة ودخولها لسوق الشغل وتحوّلها ألى عنصر فاعل في الانتاج. غير أن السلفية التقليدية أوقفت عملية التطور واعتبرت الأحكام ثابتة بالنص غير قابلة للاجتهاد.

ومركز الاهتمام في المنظومة الفقهية التقليدية ـــ كما تبلورت عبر مئات القرون ــ هو الأسرة وتكامل الأدوار بين الزوجين ،فحملت الرجل مسؤولية القوامة وما يترتب عنها من مهر ونفقة وحضانة وطلاق.

غير أن السلفية الجهادية قدمت إضافات جديدة من منطلق انخراط المرأة في العمل الجهادي ، مما استوجب تحولا في نظرة المرأة لنفسها ولدورها، وهو يختلف حتى عن المنظومة الفقهية التقليدية . فما هي ملامح السلفية الجهادية وفيم تتمثل استراتيجيتها في العمل : مضامين ومناهج وأهدافا ؟

1ـــ المضامين

أ ـــ جسد المرأة في العقيدة السلفية :مقدس ، عورة


لا يعتبر جسد المرأة ملكا لها،هو عورة محرم على غير زوجها حتى بالنطر، ومن هنا جاء الحجاب الكامل أو النقاب، وهي لا ترفض أن تكون زوجة ثانية وثالثة ورابعة وحتى أبعد من ذلك ،بل هي مستعدة للتضحية بالجسد إذا نادى مناد الجهاد، وهناك يمكن أن تحمل السلاح أو أن تكون متعة لمن يحمل السلاح، وهوما يطلق عليه جهاد النكاح، فالجسد ملك لفريضة الجهاد.

ب ـــ العقيدة تلغي النظام الأسري


إن النظام الأسري أساس العلاقات الزوجية ما دام محكوما بالعقيدة ، فهي التي تحدد خيارات المرأة السلفية الجهادية وترسم مسارها، فلا سلطة للأسرة أو للمجتمع عليها، فكم من فتاة تمردت على أبويها وانفصلت عن زوجها وتجاوزت القوانين والتحقت سرا بالإخوة في العقيدة في ساحات المعارك.

كما ترفض المنظومة القانونية والقيمية السائدة، وتنطلق قناعتها من الوحدانية، الإله الواحد ،وقوله حق، وكل ما يتناقض مع هذه المقولة صنعه الطواغيت ، فالدساتير والقوانين والقيم السائدة سواء أكانت مدنية أو مذهبية، مرفوضة فلا حكم إلا لله ، فأضرحة الأولياء شرك، ودور البغاء زنى ، والفنون فساد في الأرض.

ج ـــ منهجها في العمل:


ــ من الجهاد إلى الإرهاب؟

إن الوسيلة الأنجع لنشر العقيدة وتثبيتها هي الجهاد الذي ينجز هدفا أسمى هو أسلمة الدولة ثم أسلمة المجتمع ،وعلى أساسه وقع تجنيد الآلاف للقتال وزهق أرواح المئات من الأبرياء، ففقد الجهاد دلالته وتحول إلى إرهاب، حارب الأنظمة ودمر مؤسسات الدولة بل لم يسلم حتى المواطنين العاديين من الاختطاف والذبح.

ـــ التحالف مع الإمبريالية

تتقاطع مصالح الحركة السلفية الدينية مع مصالح الإمبريالية الجديدة في محاربة الأنظمة القطرية الحاكمة الوطنية وغير الوطنية، فهي بالنسبة للسلفيين كافرة ملحدة وعميلة للغرب وطواغيت، أما بالنسبة للإمبريالية فهي لم تستجب لإملاءات العولمة في إعادة الهيكلة ،لم ترفع كل الحواجز أمام الشركات العابرة للقارات ،وبعضها مازال يقاوم الصهيونية ويرفع شعار الوحدة العربية.

وشعار التمويه المشترك هو محاربة الدكتاتورية. هذا ما وقع خاصة في ليبيا والعراق وما يقع في سوريا.واستطاعت كل منهما أن تزرع مجموعة من الشبكات الموالية من الجمعيات الدينية التي ترعى مشاريعها الخيرية وتنشر مبادئها وتجند لها المقاتلين وتتولى هي تزويدها بالمال سرّا وعلنا للترويج لعقيدتها وتمولها ذاتيا عن طريق الاحتطاب أو دفوعات الخليج : دولا وأثرياء، كذلك فعلت الإمبريالية ، فقد اخترقت المجتمع وبثت شبكة من الجمعيات تنهض على الفردانية وتلعن الجماعة وأساسا الأسرة وتبشر بالعولمة الاقتصادية والثقافة الكونية التي تنهض على النموذج الأمريكي( أمركة العالم) وتشيّء الإنسان وتدعم كل المبادرات التي لا تحمل خصوصية وطنية أو قومية، فهذه المنظمات ــ مهما ادعت الاستقلالية ــ فهي لا تخرج عن التوجهات العامة للقطبين، فالدعم المالي مرتهن بالتزام الخطوط المرسومة سلفا.

3 ـــ الأهداف

تفرعت السلفية الجهادية عن حركة الإخوان المسلمين ومازالت تحمل نفس الهدف وهو إقامة الخلافة الإسلامية والاحتكام إلى الشريعة، شعارها الحاكمية لله ، لكنها تمرّدت عليها من حيث منهجية العمل فالحركة الإخوانية تبدأ من الأسفل من أسلمة المجتمع وتتوخى الأسلوب المدني والتنظم الحزبي والاحتكام للقوانين الوضعية لتحقيق أهدافها ،أما السلفية الجهادية فهي ترفض هذه المراحل وتتجه مباشرة لهدفها وهو أسلمة الدولة بتقويض أركانها وبناء نظام إسلامي جديد تأسيسا لعودة الخلافة.

رابعا ـــ السلفية الحداثية : المرأة مركز الثقل

1 ــ الحداثة : مركزية الإنسان في الكون


إن نقطة الانطلاق في الحداثة عموما هو مركزية الإنسان في الكون فلا يمكن أن يكون إلا حرا ومريدا وفاعلا.وحتى يكون كذلك يجب ان يتخلص من كل المكبلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية.وليس عبثا أن تعيش أوروبا بداية من القرن السادس عشر حروبا ضد الكنيسة وضد الإقطاع ثم ضد الرأسمالية، غير أن المسيرة الإنسانية لا تتوقف فهي تتحرك ضمن جدلية الموجود والمنشود، فالواقع متغير والطموحات متجددة .

ورغم ما اكتسبته الانسانية من حقوق طوال أكثر من أربعة قرون، فقد اكتشف الإنسان أن إحدى ساقيه معطبة ، بها وجع ، فكان عليه أن ينتزع الشوك الذي يعطلها، فالمرأة مازالت تعيش معاناة مظلمة تاريخية أورثتها الإحساس بالدونية، كان طموحها هو أن تُنصف ،ان تزيل الغبن الاجتماعي، فكان القرن العشرين هو قرن رفع المظلمة عنها، ولم يكن ذلك ممكنا إلا بعد الثورة الصناعية والعلمية والإعلامية التي مكنت المرأة من اكتساب المعرفة واقتحام سوق الشغل. وهكذا لم تعد المساواة بين طرفي الإنسان منّة تمنح للمرأة بل حق انتزعته بعرق جبينها وكد يمينها وعصارة فكرها. تلك هي مسيرة المرأة عموما. فماذا عن المرأة العربية المسلمة والتونسية بالتحديد؟

2 ــ المرأة العربية المسلمة ومسيرة التطور


لم تكن المرأة العربية المسلمة بمعزل عن هذه المسيرة العالمية، فقد خضعت لظروف متشابهة وخاضت نفس الصراعات وتمكنت من أن تسجل حضورها في ميدان العلم والعمل ومن خلالهما أعادت الاعتبار لنفسها وانتزعت العديد من الحقوق الاجتماعية تجسدت في"لائحة الحقوق الدولية التي تضم الإعلان العالمي لحقوق 10 ديسمبر1948 ثم وثيقة العهد الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية 1966، وأخيرا العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في نفس السنة وتلاهما الإعلان الخاص بالقضاء على التمييز ضد المرأة سنة 1967.

3 ـــ إشكالية النص والواقع


إن الإشكال الذي بقي حاصلا في مسيرة التطور هو التناقض الصارخ بين :

أ ــ النص القرآني المؤسس لمرحلة تاريخية خرجت فيها المرأة من مرحلة المتعة والمتاع إلى مرحلة الشريك ، لكن دون أن تصل للمساواة مع الرجل، لأن العلاقات الاجتماعية مازالت تعتمد على ساعد الفلاح وساعد المحارب .

ب ــ الواقع المعيش الذي تغيرت فيه العلاقات الاجتماعية وتمكّنت المرأة من نصيب من المعرفة واقتحمت سوق الشغل وصارت عنصرا فاعلا في عملية الانتاج مثل الرجل.

فقد استطاع المواطن في الوطن العربي ذكورا وإناثا ــ بتفاوت ــ أن يحقق قفزة في نظرة كل منهما للآخر ،فقد تقلصت إلى حد بعيد النظرة الدونية للمرأة ،ثم جاءت الثورة لتحقق المواطنة ولتعطي لمسيرة الحرية دفعا جديدا.وكانت آخر القلاع هي المساواة في الإرث وحق المرأة المسلمة في الزواج بغير المسلم .

ولهاتين المسألتين دلالة رمزية أكثر منها رغبة في الحصول على التركة أو التمرد على العائلة ، ولا تشكلان أي عائق أمام تحرر المرأة ،لكن عدم اقرار القانون بمساواتها مع الرجل هو إقرار بالدونية وبأفضلية الرجل عليها.فمنظومة تقسيم التركة في الفقه الإسلامي وبالتحديد المالكي كانت في أغلب الحالات لفائدة المرأة كما يؤكد أهل الذكر، كذلك قانون زواج المرأة المسلمة بغير المسلم لم يعد حائلا بين الأزواج من مختلف الأديان إلا في بعض الأوساط المنغلقة.

فقد صار واقعا اجتماعيا يتم عن طريق الزواج المدني أو بإجراءات دينية شكلية لا علاقة له بالتديّن.بدون شك فإن هذين الإجراءين سيثيران جدلا واسعا ،وهو أمر طبيعي ومشروع ولا عتب على أي طرف بل وضروري حتى يتعمق الوعي.

4 ـــ تجليات انحراف السلفية الحداثية


كل هذه التجاذبات أو الصراعات كانت أمرا طبيعيا تحتمه مسيرة التطور،غير أن الحداثة لدى البعض انحرفت عن مسارها وغدت أقرب إلى الفكر السلفي في ظلاميته وفي تهميشه للمرأة ولدورها في علاقتها بالرجل وبالأسرة وبالمجتمع. ولعل السبب المباشر لهذا الانحراف هو الدور الذي صارت تضطلع به المرأة في المنظومة الرأسمالية المتوحشة حيث صارت العنصر الأساسي في كل مراحل التسويق ، فلم يعد الاهتمام بالمرأة كإنسان يجب أن تكتمل إنسانيته بل كآلية من آليات الإمبريالية الجديدة ، تحقق لها المزيد من الانتشار والابتزاز، لذا غابت القضايا الإنسانية وتركز الاهتمام على قضايا سالبة للكينونة الإنسانية فكيف يتجلى ذلك؟

أشرت في البداية إلى أن السلفية عموما هي منهجية في التفكير فهي تستند إلى مرجعية أصولية وتزعم امتلاك الحقيقة المطلقة وتقصي الآخر، وهذا ما آلت إليه الحداثة بعد أن ظهرت عدة تيارات منحرفة لا تنظر للإنسان( الرجل والمرأة) نظرة شمولية في علاقته بالأسرة والمجتمع بل صار محور اهتمامها المرأة في علاقتها بنفسها أو بوظيفتها أو بقرينها أو بالمجتمع، وهي علاقة صراع عبر التاريخ سيطر فيه الذكرعلى الأنثى ودعمها بترسانة من القوانين رسخت لديها الإحساس بالدونية.

في إطار تجاوز هذه السيطرة ظهرت عدة تيارات ترفض العلاقة الاسرية وتدعو إلى قيام علاقات جديدة أساسها حرية الجسد في اختيار القرين ولو كان على حساب استمرارية الوجود الإنساني ،ومن أبرز هذه التيارات المثلية والجندرة فما هي خصائص كل منهما؟

أ ـــ المثلية الجنسية:


*الدلالة


هي ميل أو انجذاب لنفس الجنس وعلى أساسه يمكن أن تقوم علاقة تزاوج أو اقتران بين رجلين أو امرأتين هدفها المتعة دون الانجاب ،خلافا للعلاقة الطبيعية بين الذكر والأنثى التي تحقق هدفين : المتعة والإنجاب، وبهما يتواصل النوع: الإنسان والحيوان.وقد عمل المنظّرون للمثلية على تأصيلها لدى الحيوان ، ولدى الإنسان في مختلف الحضارات إلا أنها كانت مقموعة، وقد آن لها أن تظهر زمن الحرية، زمن العولمة ، وأن ترفع عنها كل القيود مهما كان مصدرها، القوانين المدنية أو الشرائع الإلهية..

وكل من يتصدى لها هو عدوّ للحرية. وقد تشكلت عدة جمعيات للترويج لها أشهرها "شمس" و"قوس قزح " وفتحت لها وسائل الإعلام أبوابها بل صار التواصل معها عنوانا للديمقراطية وللانفتاح على الآخر،والأهم من ذلك هو الإثارة التي ترفع من نسب المشاهدة في وسائل الإعلام المرئية.

ـــ كيف ظهرت النزعة المثلية؟

تزامنت هذه النزعة قديما مع ظاهرة الثراء الفاحش والترف الذي يغزو الدور والقصور وتتحلل معه العلاقات وتفقد المرأة مكانتها وتتحول إلى متعة ومتاع فتُباع وتُشترى ثم يزهد فيها المترفون ويبحثون عن اللذة لدى الغلمان ،وقد ترافق ظهورها حديثا مع العولمة التي شيّأت الإنسان بداية من المرأة التي تحولت إلى بضاعة ووسيلة للتسويق وطغت الأنا الفردية على كل العلاقات بما في ذلك العلاقات الأسرية بين الزوج والزوجة بل بين الأنوثة والذكورة، وغابت الصراعات الاجتماعية والاقتصادية المحركة لتاريخ الإنسانية.

تلك هي الخلفية المسكوت عنها في تنامي هذه ظاهرة المثلية التي لا تكاد تُرى بالعين المجردة ، وحتى وإن ظهرت فلا تُرى إلا بالمجهر في مجتمعاتنا التي مازالت في حاجة إلى المعرفة والصحة والعمل ، لكن الوسائل الإعلامية المعولمة ضخمتها فنفخت فيها وحولتها إلى مركز اهتمام الإنسانية تشغل المفكرين ومراكز البحث في العالم ،وصارت منظمات المجتمع المدني بما في ذلك الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والمنتدى الاجتماعي ـــ التي قاومت الظلم الاجتماعي والقمع السياسي ـــ تتبنى أطروحات المثليين باعتبارها دفاعا عن الحرية .وهذا من شأنه أن يقلص مصداقية هذه المنظمات بعد أن سقطت في الدفاع عن نفايات العولمة، وكأن البناء المجتمعي لا يعنيها وليس من اهتماماتها.

ب ـــ الجندرة أو النوع الاجتماعي

ـــ الدلالة

الجندرة تيار نسوي بدأ مع الستينات، يعتقد أن المرأة كانت ومازالت ضحية لثقافة مجتمعية ذكورية جعلتها كائنا مستلبا، وقدرُها أن تتحرر.فالشخص لا يولد امرأة ، بل يصير امرأة بفعل الثقافة المجتمعية وليس بتكوينه البيولوجي ،<< فالمرأة ليست مرأة إلا لأن الرجل أرادها كذلك>> وأن الفرق بين المرأة والرجل ليس بالمكونات البيولوجية الفطرية وإنما بالوظيفة التي يؤديها كل منهما، وصار التقسيم على أساس النوع الاجتماعي أو الجندر الذي يحدد الفوارق .

فالرجل ليس له إلا خاصية بيولوجية واحدة هي التخصيب، والمرأة لها خاصيتان هما الحمل والولادة .وما عدا ذلك فهو من صنع المجتمع، فهو الذي يرسم الصورة النمطية للمرأة وللرجل من حيث السلوك واللباس ونوعية المهنة، ويفرضها عليهما منذ الطفولة. فبقية الأدوار يمكن أن يقوم بها أي منهما، فالأمومة مثلا ليست حكرا على المرأة ، فهذه :<< خُرافة، ولا يوجد هناك غريزة أسمها الأمومة ، وليس لها أساس بيولوجي فسيولوجي، فالفروقات بين الجنسين تقوم على أسس ثقافية واجتماعية ، وثقافة المجتمع هي التي تصنع هذه الغريزة، ولهذا فالأمومة وظيفةً اجتماعية>> أيْ يمكن أن يقوم بها الرجل.

بالتالي فالفوارق الموجودة بين المرأة والرجل ليست طبيعية بل هي مفروضة والضحية هي المرأة. ولإزالة هذه المظلمة عنها << يجب منحُها قوَّة سياسيَّة واجتماعيَّة واقتصادية تساوي القوةَ الممنوحة للرجل في جميع المستويات >> ولا يمكن إزالتها إلا بالمساواة التامة التي تعني وضع الجميع أمام نفس الفرص. فالهدف الاستراتيجي البعيد هو المساواة المطلقة بهدم الأنماط الثقافية السائدة التي كانت سبب شقاء المرأة.

هذه الرؤية رغم ما تحمله من مغالاة في الطرح والاستنتاج تبدو مقبولة ما دام هدفها المساواة، لكن أنصارها انحرفوا عن هذا البعد الاجتماعي الإنساني الذي تنهض عليه التحولات الثقافية والقانونية وسقطوا في الدعوة لنفايات العولمة. فما هي الأهداف التي تبلورت عبر حركتي المثلية والجندرة ؟

ـــ أهداف الجندرة

ـــ حرية الجسد مقدسة

الحرية تعني إلغاء كل القيود التي تحول دون تحقيق هذه الحرية من قوانين مدنية وقيم دينية ومعايير اجتماعية ، فمن حق الجسد أن يمارس أي نوع من أنواع الجنس ، مع من يريد وكيف يريد ، فلا سلطة عليه لا مدنية ولا اقتصادية ولا دينية. فتجريم الزنى واللواط والسّحاق والبغاء اعتداء على حرية الجسد، وما يسميه المجتمع شذوذا هو القاعدة وغيرها هو الشذوذ ، وكذلك الخفاض(وإن كان محدودا جدا) والختان فهما تعذيب للجسد..كل هذه القوانين الوضعية والدينية يحب أن تُلغى وكل هذه العادات يحب أن تُهجر.

ـــ الاسرة : أسْر وبناء يجب أن يُهدم

الأسرة كارثة على المرأة التي تصير بعد الزواج مرتهنة للزوج .فالمهر الذي يدفعه الرجل لها هو شراء للذة منها وستمكنه من القوامة عليها وتجعل بيده المعاشرة والطلاق .

فهذه المؤسسة يجب أن تزول وأن تقوم بدلها علاقة جديدة ، على اختيار شخصي حر لا علاقة له لا بالأسرة ولا بالمجتمع ولا بالقوانين الوضعية أو السماوية. ويجب أن يقوم نمط جديد للأسرة مغاير للنمط التقليدي، فالأسرة يمكن أن تتكون من رجلين أم امرأتين، أما الأبناء فهم كل من أنجبتهم العلاقات الجنسية داخل الأسرة أو خارج إطار الزواج الشرعي أو القانوني أو من يقع تبنيهم .ومن حق المرأة أن تكون راعية لأبنائها ولو كانوا من آباء مختلفين فهي الحاضنة لهم (أولاد مفيدة). فالخيمة الأسرية يجب أن تنتـزع أوتادها فلا حاجة لنا بها.

ـــ المجتمع: ذكوري قامع للمرأة

المجتمع سلطة قمعية فرض ثقافته على المرأة وكبلها وجعلها أسيرة للرجل،وحتى مجلة الأحوال الشخصية التي يعتبرها البعض أهم إنجاز لبورقيبة فقد تجاوزها الزمن لسببين:

ــ أنها حافظت على النظام الأسري المكبل لحرية المرأة.

ـــ أنها تواصل مع المرجعية الدينية والقانونية التقليدية ومنهما استمدت مشروعيتها.

وقد شككت الجندرة في كل البنى الفوقية المكتسبة :القوانين والأخلاق، بما في ذلك اللغة ــ قواعد ومصطلحات ــ فهي ذكورية ، فالله ذكر، والخطاب في كل اللغات يغلّب ضمير المذكر حتى ولو كان واحدا ضمن مجموعة من الإناث ، وبالتالي فاللغة ليست حيادية فهي من صنع الرجال. فكلها يجب أن تتغير.

وتعود هذه النزعة إلى مغالاة الليبرالية في التركيز على الفرد باعتباره الأصل في الوجود لكنه عندما التحق بالجماعة وقبل بوجود الدولة تخلى عن جزء هام من حريته، لكن الرجل بقي هو المسيطر،ولفائدته سنّ القوانين التي تمكنه من استمرارية السيطرة على المرأة.

لذا جاءت الجندرة لتعيد النظر في كل المنظومة الثقافية والقانونية وتعمل على إلغائها والتأكيد على استقلالية المرأة وحرية اختيارها بمعزل عن إرادة الرجل ورغبة الأسرة ومصلحة المجتمع.تلك هي بعض أطروحات الحركة السلفية بنوعيها الدينية والحداثية ، كما تبينتها من أدبيات كل منهما. قد اكون قصرت سلبا أو إيجابا ، لكن أزعم أني أتيت على أهمها .فما علاقة هاتين السلفيتين بتقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة بين الجنسين؟

(يتبع)

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات