أولا ـــ أبرز المضامين
تضمن التقرير ثلاثة أنماط من القضايا تتعلق بالحريات الفردية والمساواة وهي كالتالي : قضايا قابلة للنقاش ، قضايا استحقاقية ، قضايا معولمة ومعولبة وملغومة. فيم تتمثل؟
1 ـــ القضايا القابلة للنقاش
طرح التقرير قضايا تقليدية لها ارتباط بالعلاقة الزوجية، يمارس من خلالها الرجل سلطته على المرأة نتيجة لعلاقات اجتماعية كانت سائدة. أهمها:المهر، النفقة،الولاية ،الحضانة والعدة، وهي ليست قضايا شائكة ، وقد أخذت طريقها للحل بالإلغاء أو التعديل ليس بفعل القانون المسقط بل بفعل التطورالطبيعي وبفعل ما اكتسبته المراة من معرفة ودخولها لسوق الشغل وإرساء علاقات جديدة بين المرأة والرجل قوامها التعاون. ولم تعد هذه القضايا تشكل أي عائق أمام الزوجين ، وإثارتها والتأكيد عليها هو من باب التفقّه الحداثي لتبرير الوظيفة.
2 ـــ القضايا الاستحقاقية
هناك ثلاث مسائل مازالت خلافية لكنها فيما أعتقد ضرورية لاستكمال إنسانية الإنسان وهي :
أ ــ إلغاء الإعدام
استحقاق إنساني أقرته مؤتمرات منظمات حقوق الإنسان الدولية وصارت تناضل من أجله بما في ذلك الرابطة التونسية لحقوق الإنسان وعمل به النظام في عهد التحول وحكومات ما بعد الثورة دون أن يقع إقراره دستوريا ،فحكم الإعدام لم يطبق إلا في حالات نادرة وأعتقد أن الأرضية أوشكت أن تنضج لولا عمليات الإرهاب التي أعطت المبرر للتأجيل.
ب ـــ زواج التونسية المسلمة بغير المسلم
حق من الحقوق الانسانية للمرأة المسلمة أو غير المسلمة، فالمنع يشعر امرأتنا بالدون والسماح لها لا يخلق إشكالا كبيرا في المجتمع، فالمنع في تونس كان مرتهنا بمنشور إداري، فسحب المنشور.وفي غيرتونس صارالزواج بين أصحاب الديانات المختلفة أمرا واقعا، فالعالم تحول إلى قرية صغيرة أصبحت فيها عملية التواصل والتعارف ميسورة ولم تستطع الحواجز الدينية أن تقف أمام فاعلية العواطف الإنسانية وربما الإغراءات المصلحية وقد ظهرتحفظ في الجزائرعلى هذا الزواج لأنه لا يتم عن قناعة بل عن رغبة ملحة في الهجرة.
ج ـــ المساواة في الإرث
لقد كانت مسألة المساواة في الإرث أشد المسائل حساسية للوسط الشعبي ولدى علماء الدين، وهو أمر طبيعي لا عتب في ذلك. وخلاصة ما ذهبتُ إليه في مقاربة سابقة أن المساواة المطلقة في الحقوق والواجبات ضرورية ليس لتحقيق مكتسبات مالية من خلال الإرث بل لرفع الإحساس بالدونية عنها، والنص الديني قابل لقراءة تطورية، كما وقع مع العديد من النصوص الاخرى بقطع النظر موقف المحافظين الذين تمسكوا بالنص القرأني وعزلوه عن التحولات الاجتماعية ووضعية المرأة في علاقتها بالعلم والعمل..
3 ـــ القضايا المعولمة والمعولبة والملغمة :
استعمل التقرير اسلوب التعتيم على القضايا المركزية مثل المثلية وحرية الجسد وإلغاء النظام الأسري، وكأنها ليست المعنية وهي ــ في الحقيقةــ مربط الفرس في مشروع الرهط المتستر الذي تستند إليه اللجنة.فهي معولمة لأنها جاءت إفرازا للعولمة وفي خدمتها فالعولمة شيأت الإنسان وحولته إلى غبار من الكائنات وآلة للربح ووظفت المرأة للتسويق بل هي صارت بضاعة، وهي معولبة لأن المروجين لهذه الأفكار أخذوها جاهزة دون أن يحللوا كيف ظهرت؟ ولماذا؟ وهل هي صالحة لكل زمان ومكان؟ ما علاقتها بأوضاع المرأة المناضلة بالفكر والساعد؟ وهي ملغمة لأنها تستهدف تدمير الأسرة النواة الأولى للمجتمع، والتي كثيرا ما نحمّلها تسيّب الشباب وانتفلاتاته.
إن هؤلاء المروجين يستغلون طموحات المرأة المشروعة ليحولوها لرأس مال تجاري وأداة للتسويق بل سلعة للتمعش منها، عازلين إياها عن قضايا الرجل والمجتمع، وهم فصيل من المنبثين ثقافيا أوالمتمعشين سياسيا واقتصاديا، ويستغلون ضعف الأنظمة وهشاشة النسيج المجتمعي لتمرير نفايات العولمة، إنهم<< يناضلون>> على الارائك في الصالونات أومن خلال وسائل الإعلام لا يعرفون الإكراهات التي تتعرض لها المرأة في مؤسسات العمل ولا معاناتها في البيت مع الزوج والأبناء، وهي تشعر بمتعة وجدانية في أدائها لرسالتها، لكن الكثير من المروجين لم يعيشوا الدفء العائلي ولم يستعذبوا مذاقه. فماهي أبرز أطروحاتهم؟
أ ـــ قضية حرية الجسد ونهاية الأسرة
غابت لدى هؤلاء حرية الفكر وحضرت حرية الجسد، فليس الفكر هو الذي يتصرف في الجسد بل الجسد هو الذي يتصرف في الفكر، ومهمة الفكر أن ينظّر لما يميل إليه الجسد فالعقل صار خادما للجسد، وغابت مقولة العقل السليم في الجسم السليم، فقد أشار التقرير إلى <<ضرورة الغاء الفصل 230من المجلة الجزائية المتعلق بتجريم اللواط والسحاق>> لأنه يتعارض مع حرية الجسد التي تبرر هذا الصنيع، وحتى الخيانات الزوجية أو الزنى لم يعد لها أي مبرر ولا يعاقب عليه القانون،ولم يعد هناك مبررأيضا لمنع تعدد الزوجات وتحديد النسل ورفض الزواج العرفي واستنكار زواج جهاد النكاح ،
فلنتصور أن الرجل الواحد يمكن أن يكون له زوجة شرعية واحدة تنجب أبناء شرعيين ، وفي نفس الوقت يمكن أن تكون له عدة خليلات ، لكل واحدة منهن ابن أو أبناء.كما يمكن لزوجته الشرعية أن يكون لها أبناء من غير زوجها الشرعي،وعلى كل من الزوجين أن يرعى أبناءه مهما كان الوالد أو الوالدة، ولا يستطيع الأب أن يتعرف على أبنائه الشرعيين وغير الشرعيين والأم كذلك قد تضيع ذاكرتها.
وهكذا تنشط مهنة علماء الجينات لتحديد الأنساب وتسود الفوضى بل إن الجنس يفقد دلالته كرابطة إنسانية ويتحول إلى علاقة ظرفية تزول بحدوث أي خلل في الجسم، وكل ظاهرة تختفي باختفاء سبب وجودها .وهكذا تسقط العائلة كمؤسسة اجتماعية تربوية لأنها تكبل حرية المرأة وتشكل عبئا ثقيلا عليها.
طبعا لم تعلن اللجنة عن هذا الهدف وربما لم يدركه البعض من أعضائها أو تستّر عليه لكن الظهير المتمترس وراء اللجنة والسلطة بل وراء الاتحاد الأوروبي صاحب المقترح كان واعيا بكل الإشكالات وسيقبل التعديلات في انتظار مرحلة قادمة يعتقد أن المجتمع سيكون فيها أشد انجذابا لمثل هذه العلاقات، لكن النهاية المنطقية للحرية الجسدية هي نهاية الأسرة.
ب ـــ التزاوج المثلي
سميته التزاوج كما يرغب في ذلك المثليون لأن الزواج يحيل على سيطرة الرجل، أما التزاوج فيدل على الاختيار الحر، والتزاوج المثلي هو قضاء وطر من مثيل دون مسؤولية الانجاب وعشرة مِؤقتة تستمرما استمر الانجذاب وهولا يتجاوز 15 سنة في أقصى درجات النجاح، ثم يتحول القرينان إلى عناصر سائبة تعيش عزلة قاتلة تفضي بها إلى دور الرعاية وقد يسفر التزاوج عن التقاط طفل يعيش مع أبويه الاصطناعيين حياة أقل ما يقال فيها،أنها غير متوازنة،تورثه الانفصام الذي قد بدفعه نحو الإجرام أوالانتحار،فحياة المثليين ضياع .
4ـــ من يقف وراء المشروع؟ ومن يروّج له ؟ ولماذا؟
صدر هذا المشروع عن الاتحاد الأوروبي 14 سبتمبر 2016 عندما استفحلت الأزمة الاقتصادية بتونس وصارت في حاجة أكيدة إلى المؤسسات الدولية الأوروبية لمساعدتها على تجاوز الوضع الاقتصادي الصعب، فجاء المشروع ضمن رؤية شمولية متكاملة تتناول الجانب الاقتصادي في علاقته بالجانب الثقافي في نفس القرار الذي ضم 70فصلا فقد دعا البرلمان الأوروبي في الفصل الرابع عشر إلى <<ضرورة توفير المساواة بين الرجل والمرأة خاصة بتنقيح مجلة الأحوال الشخصية عبر إلغاء القوانين التي تكرس النيل من حقوق المرأة منها تلك المتعلقة بالإرث والزواج >>كما جاء في الفصل 21<< يدعو إلى إصلاح المجلة الجزائية وخاصة إلى إلغاء الفصل 230 الذي يجرم المثلية الجنسية عبر تسليط عقوبة بثلاث سنوات >> ( الشارع المغاربي 10 جويلية 2018)، إن هذا الإملاء تحول إلى مشروع<< تقدمي>> تُجنّد له وسائل الإعلام ويُروّج له الحرْكيون من أنصار التبعية اللغوية والسياسية والمطبعون واليمين المعولم واليسار المساوم لا اليسار المناضل ــ والفرق بينهما شاسع وعميق وتاريخي ـــ وقد عرف عن هذا الرهط أنه يسارع لرفع مظلاته في تونس كلما لاحت غيوم في سماء باريس.
فمن الأكيد أن حرية الجسد هي ترف رأسمالي لا علاقة له بتدني الوضع الاقتصادي والاجتماعي والتربوي وهي شطحات خيالية لا تبني مجتمعا ، ولا تؤسس لدولة ولا تنهض عليها حتى شخصية سوية متوازنة، إلا أن هذا الرهط التبعي يأبى إلا أن يحوّل هذا المشروع ألاستلابي إلى صراع إيديولوجي مع الإسلاميين للتغطية على تفاهته.
هذا الصراع الذي كاد أن يقضي على الثورة بعد أن أضاع اليسار البوصلة فدعم الثورة المضادة ثم التقى الخطان المتوازيان فجُوزي جزاء سنمار، ولولا الاتحاد العام لانفرط عقد الثورة في اعتصام الرحيل، وها هي الاسطوانة تتكرر، فيتناسى اليسار المساوم جوهر الصراع ويروج للمشروع الاستلابي.
وقد كان أولى به أن يستثمر معرفته بثقافة الجندرة( البعض منهم على الأقل) وأن ينقد أبعاد هذه الثقافة سلبا وإيجابا وعلاقتها بالتقرير، فالإسلاميون غريبون عنها ،فهم ينطلقون من النص القرآني ومن المرجعيات الدينية ، كذلك الجندريون ليست لهم أية معرفة بالثقافة العربية الإسلامية ، ومن الأكيد أن ردود الإسلاميين لا تعنيهم ولا يصغون إليها لكنهم يستعذبونها لأنها جاءت نتيجة لاستفزازاتهم الثقافية، ويعتبرون ذلك نجاحا لهم.وهكذا يضيع شبابنا (أو من يتابع منه هذه التجاذبات) في خضم هذه الصراعات العقيمة المجترة.
ومن الأكيد أن الثورة المضادة ستستفيد من التجاذبات الإيديولوجية لأنها ستغيب التناقضات الاساسية السيادية مع الخارج وستلهي الرأي العام والفعاليات الوطنية عن قضاياها الحارقة وحتى النهضة ستستفيد لأنها ستغربل المشروع بمنخلها، وستؤكد حضورها كحامية للدين وسيعمل السيد الباجي على تمريره حتى ولو كان مقزّما ، كما وقع مع مشروع الزطلة والمصالحة مع الفساد ، لأنه غير قادر على ليّ ذراع الاتحاد الأوروبي حتى ولو أراد ،
وسيكون هذا الرهط هو الخاسر الوحيد لأنه يغرد خارج مشاغل الشعب واهتمامات الاقتصادية والاجتماعية والحضارية أيضا. وخلاصة القول أن التقرير جاء سيء الإخراج لمشروع مسقط وهذا ما يجعلنا نتساءل أما آن الأوان لتأكيد استقلالية قرارنا الوطني المعبر عن حرية إرادتنا دون استنساخ وإسقاط وفرض؟