لو لم ينتج عن ثورة الشباب إلا فضح الأمراض التي تعاني منها نخب هذا الاقليم من الماء إلى الماء، لكان ذلك في حد ذاته ثورة ثقافية كبرى هي الأفق الذي سيحدد كل الثورات الموالية وهي في الطريق، لأن استئساد المافيات التي افتضحت دليل فقدانها أمل البقاء وهي في معركتها الاخيرة اليائسة.
وأسمح لنفسي بتشبيه ما حصل في فضح النخب بأصنافها التي سأصفها بما يجري في أي مدينة عربية بعد زخات أمطار تتجاوز العادة بقدر ليس بالضرورة قريبا مما رأيت في ماليزيا مثلا، حيث إن ما حدث في منطقة بنزرت الأسبوع الماضي يحدث ما هو أشد منه يوميا ولم أر في أربع سنوات ما رأيت في يوم واحد.
ما أخرجته ثورة الشباب بخصوص هذه النخب ومافياتها وعملائها ومن وراءهم جهارا نهارا أشبه بما جرفته وأخرجته مياه يوم ماطر في المدن العربية بل وأكثر.
فكل قاذورات قرون الانحطاط وقرون الاستعمار صرنا نراها بالعين المجردة طافية فوق سيل الماء في الشوارع وأهم شارع هو “الإعلام” الأحمق.
يليه شارع الخبراء في كل شيء، ثم أمراء الحرب السياسية الباردة التي تستعد للحرب الحارة دون إخفائها مثل من يقدر عدد القتلى (20 ألفا) ويميز بين ألوان الدم، ومنهم من ينتسبون إلى حزب إسلامي سني ويبشرون بنماذج شيعية وخاصة الحزيبات التي مجموع عشرة منها لا يملأ “زينة وعزيزة”(حافلة ذات غرفتين).
ولأشرع الآن في التمييز بين “الاوساط” التي يجري فيها هذا السيل من القاذورات التي أخرجها سيل الماء الذي مثلته ثورة الشباب وبين النخب التي سآخذها فرادى بحسب أصنافها وأدوارها في هذه الأوساط الكبرى، وهي :
• سياسية
• ونقابية
• وتوجهات فكرية بعضها يدعي الكلام باسم الدين والآخر باسم الفلسفة.
فما أقصده بالأوساط، هو ما يحيط بالجماعات الدنيا في الجماعة الكبرى على أساس:
• طائفي
• أو عرقي
• أو فكري
• أو سياسي
• أو حضاري.
1. فالأول مثاله المقابلة شيعي سني
2. والثاني تركي كردي أو عربي أمازيغي
3. والثالث ديني فلسفي أو إسلامي علماني
4. والأخير تحديثي تأصيلي.
فهذه الاوساط تمثل الشروخ التي ليست – كما كان يفترض أن تكون – مصدر ثراء حضاري يمكن أن ينتج عنها تخاصب متبادل، بل هي تحولت بسبب ما تجمع في إطارها من قيادات أو نخب ذات قصور ذهني عجيب جعلها في حرب أهلية دائمة، كل منها يدعي أن علة الأزمة هي الآخر وشرط الخروج منها إلغاؤه.
وهذه الأوساط فضحت الثورة قياداتها فبينت أنهم أمراء حرب باردة في بعض الأصناف (وهي بالقوة حامية) وحامية في بعضها الأخر (مثل الوسطين شيعي سني أو علماني أصلاني أو إسلامي تقليدي واخواني أو تأصيلي تحديثي) وليسوا قيادات فكر أو حتى ذوي عقل وذهن بل هم “شبيحة”.
وهكذا فقد حددنا السمة الغالبة على نخب هذه الأوساط التي حاولت حصرها.
فالنخب القائدة فيها جميعا – ولا أعمم على نخب الشعب إذ النخب التي لم تصبح مليشيات سيف أو مليشيات قلم لأحد هذه الأوساط لا دور لها حقا، بل هي قوة معطَّلة في كل بلاد العرب – هي القاذورات التي يخرجها السيل في مدن العرب.
وإذن فكلامي ليس على النخب بالمعنى الذي يفهم في مجتمعات لا يخرج السيل في مدنها القاذورات بل بالمعنى الذي وصفت بهذه الاستعارة التي تبين وجه الشبه باعتبار ثورة الشباب قطرٌ غير معتاد فضح الذي غطى على شذوذه المعتاد.
إدراك غالبية الشعب القاذورات القائدة هو الثورة الثقافية ثمرة ثورة الحرية والكرامة السياسية الروحية.
والغريب ان هذه القاذورات القائدة تسهم في معركتها اليائسة والأخيرة في هذه الثورة الثقافية لأنها انتقلت من التقية والنفاق إلى النزعة الكلبية فصارت أبرز من يحتل ساحات التواصل الاجتماعي والإعلام الذي هو ملك المافيات التي تستخدمهم للـ”تفلسف” وتبرير ما يفعلون بزعمه هو الثورة.
ومن أراد امثلة من ذلك، فلينظر في فضائيات العرب ومنها خاصة فضائيات تونس ومصر، ثم الآن السعودية والإمارات ليعلم عما أتكلم. فكم من دجالين في الدين وفي الفلسفة يتعاقبون على الفضائيات متنافسين على تبرير غباوات أمراء الثورة المضادة وعملاء إيران أو إسرائيل قيادات حكيمة وحداثية وثورية وتقدمية؟
وليكن مثالنا في السياسة أميري الثورة المضادة في الخليج وقيادات الحشد الشعبي في العراق والدواعش الذين أفسدوا ثورة سوريا والسيسي وبشار وحفتر والسبسي وأسراب حزيبه وكل الأسراب التي تفرعت عن حزب المرزوقي وابن جعفر ويتامى الماركسية والليبرالية في البلاد العربية.
وليكن مثالنا في العلم والأكاديميا جل الدكاترة المزيفين إما لاشترائها بالمال أو بـ”ما دون العانة” فهؤلاء هم أكثر الناس نباحا وتباكيا على ما أفسدته الثورة التي هي عندهم مؤامرة غربية على أنظمة العبقرية التي جندتهم وسيدتهم على الجامعات والمؤسسات التي أنهت كل معنى للفكر والثقافة.
وليكن مثالنا في القدرة أو أصحاب الانتاج المال المادي (الاقتصاد) والرمزي (الثقافة) سواء كانوا من نقابات الأعراف أو من نقابات العملة، فهما المافيتان الأساسيتان المنافستان للساسة وأجهزة المحميات (ليست دولا) لتقاسم ما يبقى بعد أن يأخذ حاميهم ومنصبهم كل حاجته وهم موظفو النخبتين السابقتين.
فإذا وصلنا إلى نخبة الذوق، فإن من يقودها ليس ذوي الذوق ومبدعي عباراته، بل المافية التي سيطرت على الساحة الثقافية والوزارة التي تمولها ببعض فتات الميزانية – في تونس ومصر اللتين أعرف دهاليز “خمج” فنانيهما ووزارة ثقافتيهما – ليكونوا مهرجي النخب الثلاثة السابقة بلا ذوق ولا خلق.
ونصل أخيرا إلى نكبة النكبات: نخبة الوجود أو أصحاب الرؤى. وهي إما دينية أو “فلسفية”. وفي الحقيقة لا هي دينية، ولا هي فلسفية بل هي انتحال صفة دينية وصفة فلسفية.
ولا يعني ذلك أننا ليس لنا رجال ونساء دين ورجال ونساء فلسفة بل حديثي على متصدري الكلام باسمهما في المسؤوليات الرسمية.
لماذا اعتبر هذه النخبة الرسمية الاخيرة نكبة النكبات؟
لأن ممثليها الرسميين يدعون تمثيل الوحي والعقل بمعنى المصدرين الأسميين في كل حضارة وهما يمثلان كاريكاتورين منهما. فلا أحد يمكن أن يعتبر الدعاة، القديم منهم والجديد، معبرين حقا عن قيم الوحي ولا كذابي الاختصاص الفلسفي ممثلين للعقل.
فمنذ قرنين من محاولة إصلاح التعليم الديني لم أر في كل بلاد المسلمين فضلا عن بلاد العرب التي هي أكثر بلاد المسلمين خضوعا للمافيات رجال دين أو نساء لهم ما يمكن أن نجده من فطنة وفهم للقرآن والسنة يضاهي جيل الغزالي أو جيل ابن خلدون، بل هم جميعا ببغاوات قتلتهم إيديولوجية “فقه الواقع”.
ولا يمكن كذلك أن تجد بين “متفلسفة” العرب اليوم من يمكن أن يقاس بآخر فلاسفتنا رغم أنه لم يكن إلا مجرد شارح لأرسطو.
ليس بين الفلاسفة العرب اليوم -إن صح أن شيئا بهذا الاسم له وجود- من يمكن أن يعتبر شارحا أكبر لأي فيلسوف معتبر، فضلا عن أن يكون فيلسوفا على الاقل بين الحاضرين في الإعلام.
فبعد قرنين من “التحديث” والابتعاث ما يتصدر في الفلسفة هم من جنس السيدات اللواتي يتسوقن في المغازات الغربية فيتبعن الموضة.
وما إن تظهر صيحة جديدة حتى يرتمون عليها لتصبح مطلبهم في تراثنا، لعل ذلك يضفي عليه ما يعتبرونه معيار القيمة الفكرية، لكأن فكر زيد ينبغي أن يستمد قيمته من فكر عمرو.
لم يعد للفكر قيام ذاتي يستمده من الإشكاليات التي يعالجها وصلتها بما في حضارته من حضور للكلي بأسلوبها فيغيب عندهم الكلي والأسلوبي خلطا بين الامرين.
ولهذه العلة فلا يمكن لمثل هذا الفكر أن يتجاوز الموضة مثل الجاريات وراءها في التسوق خلال السياحة في مغازات الغرب.
والأدهى والأمر هو أن من يسمون بالدعاة الجدد جمعوا بين المرضين:
فلكي يثبتوا انهم جدد يجدون العون في الشيخ جوجل فيستعملون منطق “قص ولصق” في خطبهم حتى يعتبروا علماء ليس في الآخرة والدين وحدهما بل وفي علوم الدنيا والفلسفة فيكون لديك دجال النمسا وكل فقهاء الواقع والإعجاز العملي.
ولما تسمع نقاد الدين من جنس دجال الحضارة وتلامذته في تونس ومن جنس ناصر حامد أبي زيد وعركون فأنت أمام قوم تتساءل أحيانا هل حقا ذاقوا معنى التجربة الروحية والوجودية فيتكلموا على الدين بخرافة أنه خرافة وأن التاريخ تجاوزه وأن عصر العلم قد حل وهم أجهل خلق الله في أي علم سموه.
فمن يتصور خرافات اليسار الهيجلي والماركسية من الفلسفة والعلم لا يمكن أن يعتد به ولا حتى أن نطمئن إلى أنه عاقل حقا:
فسوء هضم محاولات هيجل في التوفيق الأسمى بين الديني والفلسفي، ليست في متناول هؤلاء الاقزام الذين يتصورون أن التعلم الرديء لعلوم العربية يخفيه ادعاء علوم الإنسان.
وختاما فيمكن القول إن فضل ثورة الشباب بجنسيه هو أنها أعطت لشعوب الإقليم البداية التي تمكن من تحريرهم من فهم الثورة وكأنها طلقة نار غير مسبوقة بالوعي الضروري لكل فعل هادف. فالثورة ليست فزة بدوية، بل هي طفرة ثقافية تنقل الشعب من الاستسلام للموجود إلى طالب للمنشود فكريا وفعليا.