عندما يخوض من هم من غير أهل الاختصاص أو الإطلاع في قضايا دقيقة تلتبس المفاهيم وتختلط المعاني ، ويشتدّ الالتباس أكثر عندما تكون السياقات متلبّسة بالتنازع السياسويّ والفرز الأيديولوجي ، فتؤدّي إلى تقسيم وهميّ بين محافظين ومجدّدين على أساس خلط مفاهيميّ ومنهجيّ.
التعبير على وجه القطع أو الظنّ هو من خصائص التواصل عبر الكلام البشريّ، يتكلّم النّاس في خطابهم اليومي بعبارات قطعيّة لا تحتمل أكثر من معنى ، بل لا تحتمل سوى معنى واحدا ، كما يتكلّمون بعبارات ظنيّة تحتمل أكثر من معنى وتحتاج لصرفها من الظنّ إلى القطع إلى قرائن من سياق نصّ الكلام نفسه أو من سياق القول ومقامه وإطاره الموضوعي وحال المتكلّم وأعراف الاستعمال اللغوي.
لا يمكن مثلا للقابض في شبّاك الصّرف ببنك أن يتأوّل نصّ شيك يحدّد كاتبه مبلغا بالأرقام والحروف واسم المستفيد وتاريخ الصّرف ، هذا نصّ قطعيّ في دلالته ومفعوله لأنّه توفّر على أشدّ الألفاظ قطعيّة " أسماء الأعلام والأرقام. "
وكذا إذا ذهب إلى البائع وطلب بضاعة بعينها ونصّ عليها بالإسم والوصف المفصّل فهذا محمول على دلالة القطع لا الظنّ ،
لكن القطع في دلالات الكلام ليس متوفّرا دائما ، إمّا بقصد اختياري لتعدّد المعنى خاصّة في السياقات التواصليّة التي تتجاوز الإبلاغ الى البلاغة ، أو لخصائص الكلام نفسه الذي لا يمكن أن يكون قطعيّا في كلّ ألفاظه وعباراته فذلك أمر مستحيل لا تحتمله اللغة نفسها والاستعمال اللغوي في التّواصل بين البشر بل لا تحتمله الحياة نفسها حيث تضيق اذا تحوّلت إلى قائمة من العبارات التي تتطابق فيها الدوال مع مدولاتها .
القطعي والظنّي استعمالان لغويّان متكاملان يعبّران عن حاجة اجتماعيّة تواصليّة ولا يمكن الاستغناء عن أحدهما.
نزل القرآن بلغة البشر ولسان العرب ويتوفّر بالضّرورة على القطعي والظنّي على مقتضى لغة العرب ، فلا معنى لعدم وجود قطعيّ بالكليّة ، ولا معنى لغة وشرعا لاجتهاد لا يقيم اعتبارا للدلالات القطعيّة ، دون السّقوط في الفهم الحرفي الظّاهري لوجود دلالات حافّة وسياقات تساهم في إثراء المعنى.
جدل الإرث وما أثاره مرجعه أنّ عباراتِه وألفاظَه تنتمي إلى أكثر سجلات القول قطعيّة في دلالتها اللغويّة ، وغير قابلة لاجتهاد من داخل النّسق اللغوي والبياني للنصّ، ويحتاج الاجتهاد من خارج النصّ الى مسوّغات عقليّة وواقعيّة متينة لم تظهر في خطاب التّجديد الذي حرص أصحابه على تسويقه، كما يحتاج الى أن يعبّر عن الضّمير العامّ للمجتمع لعلاقته بنمط عيشهم وهو ما أعتبره أهل التجديد مناقضا لمبدإ الحقوق الذي يأبى الاستفتاء عليه.
ممّا يحيلنا من جديد على صراع القطعيّات ، حيث تنطوي دعوى التجديد على تناقض منطقيّ ومنهجيّ مفض إلى مواجهة قطعيّ بقطعيّ ، قطعيّ دينيّ غير قابل للاجتهاد وقطعيّ حقوقيّ غير قابل للاستفتاء ، وبينهما مجتمع يتفاعل مع حاجاته الحيويّة غير عابئ بجدل نخبه ذي الخلفيات السياسويّة والانتخابويّة المتدثّرة بالمعرفة والحقوق.