حين شرعنا في كتابة “أنطولوجيا الذات” رحنا نرصد كل حالات ظهورها في الحياة، بوصفها أي الذات هي الأنا، وقد انتقل إلى الممارسة، إلى الفعل، فالذات من حيث الجوهر تعي ذاتها من خلال تعيّنها في الحياة والواقع، من حيث امتلاكها موضوعات وجودها، ووعيها بهذا الوجود.
العبودية والسيادة حالتان من حالات وجود الذات، وبالتالي حالتان من وعي الذات بنفسها. ولقد انتهينا في “أنطولوجيا الذات” إلى فكرة لم تحصل على النظر من الفلسفة على نحو واسع، ألا وهي فكرة جدل السيد والعبد داخل ذات واحدة.
تعود فكرة جدل السيد والعبد إلى شيخ فلاسفة المذهب العقلاني الديالكتيكي الصارم هيغل. ومن الحكمة أن نرى في جدل هيغل هذا مقدمة لفهم الصراع الطبقي ووعي هذا الصراع، وإن كان جدل السيد والعبد الهيغلي تناقضا جدليا يفضي إلى شعور العبد بحريته وشعور الحر بعبوديته، ذلك أن روح المغامرة لدى ذات آثرت خوض غمار الخطر قد قادتها إلى أن تملك، فيما العبد قادته روح السكينة إلى أن يكون مملوكا. المالك ذو وعي نبيل فيما المملوك ذو وعي دنيء، الوعي الدنيء ليس وعيا بالذات، فيما الوعي النبيل وعي بالذات بوصفها حرة.
ما لم يعرفه السيد أن وجوده سيدا وقفٌ على قوة عمل العبد، فهو سيد بفضل العبد نفسه. والعبد يظل عبدا ما لم يع أنه عبد. وعيه لعبوديته يقوده إلى وعي الحرية. فها هو السيد عبد والعبد حرّ. نحن هنا أمام تناقض بين نوعين من الذات ونوعين من الطبقات.
لقد اعترف العبد مهزوما بسيادة السيد المنتصر، وهذا يندرج في تاريخ الاعتراف بالذات. فإذا كان الأمر عند هيغل وشراحه أمرَ ذاتين تعاركتا من أجل الاعتراف، وأدّى عراكهما إلى انتصار أحدهما، ثمّ انزوت ذات خادمة لذات أخرى، فإن الأمر مختلف عندنا. ففي كل المجتمعات التي لم تنتصر فيها الذات معترفة بوجودها الحر، وبهيبتها وحقها، نحصل على نمط من الذات تعيش تناقض السيد والعبد داخلها.
الذات التي تعيش جدل السيادة والعبودية هي ذات خاطرت بسيادتها من أجل عبوديتها، حيث تحصل عبر عبوديتها على سيادة ما منقوصة على غيرها. هذا التناقض المعيش والموعى به يخلق داخل الذات ذاتين: ذات تنفر من ذات، وتتوعد ذاتا، وتنتقم من ذات، كل ذلك عبر علاقة هذه الذات بغيرها. وإن وعي الذات بالسيادة والمكانة في بنية لا تعترف بالذات على هذا النحو يعني أن الذات آثرت ألّا تتوسل ممن هم يعملون على كبح حضور الذات، أيّ مكاسب تذكر، ومن شأنها أن تحوّلهم إلى ذوات عبودية.
غير أن كثيرا من الذوات تؤثر حياة النعيم والثروة والسلطة من آخرين مانحين لكل هذا. السيد المانح يمنح -عمليا- فضلا من قوته إلى ذات تنقص سيادتها من جهة، ومدينة من جهة أخرى إلى ذات أقوى؛ ذات مانحة.
الذات المانحة لفضل القوة ذات/ سيد. الذات الممنوحة فضل قوة تمارس قوتها على ذوات أقل منها قوة، فهي بهذا المعنى ذات/ سيدة، فهي إذا -في الوقت نفسه- ذات وعي عبودي تجاه السيد المانح وذات وعي بالسيادة تجاه آخرين.
هذا التناقض داخل الذات واستمراره وجودا ممزقا بين وعيين يؤدي إلى صراع داخل الذات، ويحمل الذات على التفكير الدائم للخروج منه، أو الاستسلام له.
الذات وجود ممزق بين ثلاثة أشكال من الوعي؛ وعي بالسيادة، وعي بالعبودية، ووعي بالتمزق والتخلص من هذا التناقض، فهذا السيد -الذي يمتلك فضل قوة ممنوحة- واعٍ لعبوديته وعيا كاملا. واعٍ لسيادته المنقوصة والتي يفسدها وعي عبوديته. وفي المقابل هذه الذات الممزقة واعية لسبل الخلاص من هذا التمزق. لكنها في لحظة اختيارها العبودية لم تكن قادرة على وعي التمزق مسبقا. أما وقد أصبحت وجودا ممزقا فإنها إما أن تظل عاجزة عن تجاوز التناقض، وإما العودة إلى سيادة غير منقوصة متخلية عن الامتيازات التي توفرها لها العبودية، وتغدو ذاتا جديدة دون قابلية للعبودية.
يؤدّي التمزق بين وعيين حاضرين في الذات إلى أشكالٍ من وعي الذات ووعي الآخر وبخاصة الآخر السيد. وعي التمزق الذاتي يعني وعيا بعدم الرضا عن الذات من جهة والعجز عن تجاوز هذا التمزق من جهة أخرى. ولا سيما أن الذات تدرك أن هيبتها قد فقدت ولم تبق منها إلا الهيبة الممنوحة لها -زيفا- من قبل الذوات المساوية لها والأدنى. وعدم الرضا الناتج عن وعي الذات بوعي الآخر لها على أنها ذات/ عبد، يفضي إلى وعيين مختلفين تجاه الآخر/ الخارجي، السيد والناس الذين يعون ذاتهم على أنهم أسياد.
إن الذات الممزقة بين وعيين داخليين سيادة/ عبودية، تكنّ الحقد والكره للسيد الذي يحولها إلى عبد والذي تحاول إرضاءه إذا ما أرادت الاستمرار والعيش بهذا التمزق. إنها في الغالب تتمنى اللحظة التي تحررها من السيد، سواء جاءها التحرر منه أو من قرارها المستقل، تمنيا غير مرتبط بالفاعلية وهذا من جهة، ومن جهة أخرى تحاول إرضاء الجمهور المتمتع بسيادته لأن الآخر الذي يمنح المكانة الحقيقية، مع تلذذ بممارسة السيادة على من هم في حقل العبودية له.
وغالبا ما تصل الذات الممزقة إلى التمرد على السيد بعد موته، أو خروجها من أسر عبوديته لأسباب موضوعية، وتحاول جاهدة أن تحصل على الغفران من ذاتها الأخرى. إنها في هذه الحال ترفع التناقض وتتخلص من التمزق ولا يبقى أمامها سوى الحصول على الاعتراف بالسيادة المتحررة من العبودية من قبل الذوات الأخرى، التي لا تنسى لحظة عبودية الذات التي تطلب الآن الغفران أو تنساها إذا ما قامت بفعل جلل يؤكد تحررها من السيد.
تمارس الذات التي تعيش جدل السيد والعبد خداعا ذاتيا في محاولة منها للتخلص من العذاب الداخلي والتأفف من ذاتها. فهي تلقي باللائمة على السيد الذي يحوّلها إلى عبد مع بعضٍ من فضلات قوة تحولها إلى سيد. إن تمزقها الداخلي يحملها على النظر إلى خارجها/ السيد. فهذا الخارج يصبح هو المسؤول عن تمزقها وعن ذلك الازدواج الذي تعيشه، إنها تريد تحرر ذاتها من ذاتها فتسقط ما هي عليه على ذاتٍ أخرى. ها هي الذات الأخرى- السيد هي المسؤولة عن تمزقها. وبفضل هذا الإسقاط تحاول تجاوز تمزقها على أنه أمرٌ مفروض عليها من الخارج، أي أن الذات لا تملك حرية اختيار تمزقها، ولا حول لها ولا قوة في وجودها المعيش.
وإذ يتراكم هذا الوعي مع الأيام يتحوّل السيد إلى موضوع نفي نفسيّ، موضوع عنف معنويّ، موضوع احتقار وانتظار خلاص هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فتحاول هذه الذات المعذبة أن تعلن عن سيادتها في أي لحظة مناسبة وتبالغ بالإعلان عنها طمعا في اعتراف الآخر بسيادتها. ولأن الآخر لن يمنحها اعترافا كهذا، بل خضوعا بفعل الخوف فإنها -أي الذات الممزقة- لاتعود شيئا فشيئا، تميز بين الاعتراف الحر والخضوع الإجباري.
والذات المعذبة بهذا التمزق الفاجع إذا لم تعترف بأنها هي الذات المسؤولة عن جرمها المعذب ورميت من قبل السيد على قارعة الوجود جثة حية، فإنها تعيش عمرها بالوعي العبودي. لأن الذات/ العبد هي التي انتصرت في النهاية، انتصرت بفعل قرار السيد الذي أدخلها كهف العبودية حتى النهاية.
أما إذا اعترفت الذات بأنها وحدها المسؤولة عن مصيرها، وأنها وحدها التي بيدها التحرر من هذا التمزق وقامت فعلا بالتحرر عبر الخلاص الذاتي وإعلان استقلالها عن السيد، ورفض فضلات قوته فإنها تعيش انتصار الذات/ السيد. مع كل ما ينجرّ عليها من فقدان فضلات القوة.
يدلّ جدل السيد والعبد داخل الذات على استحالة التركيب داخل الذات بين نقيضين وليس هناك أي مفهوم دالّ بالأصل على تركيب كهذا. فالرفع هنا لا يعني سوى انتصار أحد الحدّين وليس انتصار حدّ هو كيفٌ من جدل هذين المفهومين/ الواقعين.
لا شك أن الشرط الأمثل لتعيّن ذات تعيش تمزق جدل السيد والعبد هو المجتمع الذي ينطوي على الاحتكار العنفي للقوة. لكن الاحتكار العنفي لا يفهمنا وحده ظهور مثل هذه الذات الممزقة. بل إن الذات نفسها تجد شرطها الأمثل لظهورها على هذا النحو. ولا أدلّ على ذلك إلا وجود ذوات لا تخضع لمثل هذا الجدل بانتصار حدّ السيادة.
فالذات لا تستطيع أن تضع القناع على وجهها إلى ما لا نهاية له، وهي إن فعلت فإنها تمارس أسوأ القذارات الممكنة، فليس هناك أسوأ في الحياة من عبدٍ ينتقم من سيده عبر ممارسة سيادة على آخرين غير معترفين بسيادته. يمارس سيادته عبر عدوانية لا أخلاقية بامتياز. إذ ليست العدوانية هنا طبيعة ذئبية ترتد إلى نمط من الذوات العدوانية بطبعها والتي تحاول أن تخفف هذه العدوانية عبر الثقافة والتواصل والاعتراف، وإنما عدوانية ثأرية لا أخلاقية، لأنها تثأر من ذاتها، من عبوديتها عبر العدوان على الآخر.
إن ذاتا كهذه تلبس قناعين: قناع العبودية أمام السيد وقناع السيد أمام الآخر. والحق، إن التاريخ مليء بالذات/ القناع، ولا حاجة للتفتيش عن أولئك الذين نسوا الكلام، وتعودوا خلف قناعك الاجتماعي ووداعتك “على النباح”، قالها مرة ولهم رايش في «استمع أيها الصغير»، إن هذه الذات تخفي وحشية كبيرة، أجل إن القناع هو الخنجر المسموم الذي تستله تلك الذات التي تحتقر ذاتها(1).
نحن أمام ذات ملتبسة إذ لا يمكن لذات أن تحتقر ذاتها إلا إذا كانت تنطوي على ذات تحترم ذاتها. أو قل تتمنى أن تكون ذاتا، حضورا بغير شوائب، أي ذاتيا محضا، الذات/ القناع لا تستطيع أن تملأ ذاتها كبرياء “معرفة سلوكا”، ولهذا تفضل الانتفاخ، والذات التي تنتفخ تنفجر من أدنى وخز إبرة كما يقول نيتشه في ما وراء الخير والشر(2).
إذا كان حقل ظهور الذات/ القناع، الذات المنتفخة، هو الاحتكار العنفي للقوة -مجتمع استبداد طبقي، استبداد سلطوي، استبداد أيديولوجي- فإن الفئات التي تنتج هذه الذات فئات الموظفين والمتعلمين والعاملين بأجهزة القمع المادي والأيديولوجي.
إن بطل رواية نجيب محفوظ “القاهرة 30″ محجوب عبدالدايم، الذي وقف موقفا عدميا من كل القيم، موقفا لا يمت إلى نظرة العالم -بل إلى طريقة للوصول وتقويض الفقر والرغبة في الثروة- هو نموذج فذّ لهذا الصراع بين السيد والعبد داخل الذات. إنه يرضى بأكثر الأدوار قذارة في الحياة، الزواج من عشيقة المدير (الذي وافق على أن يقوم بدور السكرتير له)، الفتاة التي كان يتمناها محجوب أيام الدراسة مع الموافقة على أن يأتيها المدير بعد زواجها دوريا، ولكن محجوب يصل في النهاية إلى صحوة ضمير. إن صحوة الضمير هذه ليست سوى الذات الأخرى التي قمعتها ذات عبدة (3). وقس على ذلك.
ولقد أظهرت معركة الحياة العربية أنماطا ونماذج وأشكالا متعددة من الذوات التي تعيش جدل السيادة والعبودية في آن واحد. وليس هذا فحسب بل خلقت نظاما هيراركيا لمثل هذه الحال.
فرجل الأمن البسيط يشعر بسيادته أمام الكائن العادي الشعبي، لكنه في الوقت نفسه هو عبد عند سيد أعلى رتبة، والسيد الأعلى رتبة هو عبد عند الأعلى وهكذا نحصل على سلسلة كائنات هي خليط من السيادة والعبودية للوصول إلى المستبد الأول الذي هو السيد الأول الذي ما أن يشعر بالخطر حتى يفتش عن سيد أعلى يبقي قوة من السيادة لديه، فيتحول إلى عبد. وفي الشروط التي يخلقها الواقع والتي تأذن بانهيار هذه الهراركية في السيادة والعبودية، فإن ذواتا تشعر بعبوديتها سرعان ما تعلن عن سيادتها بالتمرد.
خذ شخصية المرافق للسيد وللسيد العبد، إنه حالة تراجيدية بحق. ها هو ينعم من فضلات الثروة، ويخيف بفضل فضلات القوة، إنه سيد أمام العامة، لكنه مرافق لا إرادة له، فهو طيّع سيده في كل شيء. وإذا كان المرافق يعرف حقيقة سيده الوضيعة ويحتقره فإنه يحتقر ذاته في عبوديتها لذات يراها أقل شأنا من ذاته.
وشعور الذات بعبوديتها شرط ضروري لتحررها، لكنه ليس شرطا كافيا، لأن الذات قد تتعود على تعايش عبوديتها وسيادتها حتى الفناء.
والحالة المثلى للسيادة الناصعة غير الملوثة بشعور العبودية، هي الذات/ السيادة التي تكافح قولا وفعلا لتحرير الذوات من عبوديتهم، وخلق الوعي لدى كل ذات بأنها غاية، ولأنها غاية فهي سيدة بالتمام.
الحواشي
(1)رايش، ولهم، استمع أيها الصغير، دار ابن رشد، بيروت، 1977، ص 114
(2)انظر: نيتشه، ما وراء الخير والشر، ترجمة محمد عضيمة، بلا تاريخ. ص 111
(3)انظر: محفوظ، نجيب، القاهرة 31