من أكثر المآسي التي عاشتها منطقة مغربنا العربي تأثيرًا في واقعنا الرّاهن استعمار الدّولة الفرنسيّة لبلداننا بدافع الاستئثار بثرواتنا الطّبيعيّة وتوظيفها لمصلحتها الخاصّة. ومن هذا المنطلق الانتهازي الضيّق، وخلافًا لما رَوّجت له أجهزته الدّعائيّة من النّهوض الثّقافي بربوعنا وتأهيل بلداننا حضاريّا وعلميًّا، أقام المستعْمر الفرنسيّ سلّمًا تراتبيًّا بين مستعمراته، احتلّ فيه القطر الجزائري الشّقيق أعلى مراتبه، بالنّظر إلى ما حبته به الطّبيعة منن ثروات طبيعيّة، فيما لم تحض البلدان المجاورة له، تونس والمغرب الأقصى، نفس الأهمّيّة باعتبار محدوديّة مخزونها المنجميّ.
وكلّ قراءة لتاريخ علاقات المستعمر الفرنسيّة بمستعمراته في المنطقة المذكورة لا تأخذ بالحسبان هذا المعطى المصلحي لا يمكنها أن تقف على حقيقة هذه العلاقات. بحيث أنّ ما اصطلح على تسميته بـ"اسْتقلال" تونس والمغرب عن المستعمر الفرنسي، وبقطع النّظر عن تزامن المساريْن، 2 مارس بالنّسبة للمغرب و20 مارس بالنّسبة لتونس، بصفة لافتة وداعية للتّساؤل عن الأسباب الاسّتراتيجيّة الحقيقيّة للعدول عن واقع الاحتلال العسكري وإيثار المسار التّفاوضي، فلا يُعْقَل أن يكون ضمير المستعْمر الجمعي قد أفاق من غفلته في نفس الشّهر بعد ما يناهز القرن من الاسْتعْمار فيما ظلّ يغط في سبات عميق فيما يخصّ الجزائر إلى حدود سنة 1962.
اللّهمّ أن تكون الخيارات الاستراتيجيّة الفرنسيّة قد تغيّرت، بحيث أنّها عزمت على قصْر حضورها العسْكري في الرّقعة الجغرافيّة التي تعْتبرها حيويّة بالنّسبة لمصالحها الاقتصاديّة قبل كلّ شيء. وممّا هو عاضد لهذه القراءة أنّ المجهود العسكري الذي بذلته الدّولة الفرنسيّة في تعزيز حدود مستعمرتها الشّرقيّة كان بعد 20 مارس 1956 أكبر بكثير ممّا هو الحال قبل تاريخ "استقْلال" تونس عنها المُفْتَرَض.
وحسبنا دليلاً عمّا نزْعم أنّ حصيلة شهداء تونس "المستقلّة" بإثْر العدْوان الفرنسي على تطاوين-جبل اقري (29 ماي 1956، 60 شهيدًا و200 أسيرًا)، وساقية سيدي يوسف (8 فيفري 1958، 70 شهيدًا و87 جريحًا)، وبنزرت (19-23 جويلية 1961، 630 شهيدًا و1550 جريحًا)... فاقت عدد شهدائنا طيلة مرحلة المقاومة ضدّ المُسْتعمر. والسّبب في ذلك أنّ غاية المسْتعمر الفرنسي من منْحنا، بمعيّة المغرب الأقصى، ما سُوِّق له على أنّه استقلال، لم تكن سوى إقامة حدود عازلة وضامنة لعزلة القطْر الجزائري وانْبتاته عن عمْقيه الجغرافي والتّاريخي الطّبيعيّيْن.
وإمعانًا في اتّباع نفْس الخيارات الاسْتراتيجيّة، من حيث إرادة السّطْو على خيرات الأخت الكبرى الطّبيعيّة، لم يتوان المستعمر الفرنسي إلى حدّ يوم الأمس عن توظيف عميله المرتزق خليفة حفتر لبلوغ هدفه العسكري -الجزائر- من البوابة اللّيبيّة، وهو ما يفسّر عملية إعادة الانتشار الأخيرة التي تمّت تحت ذريعة توحيد القيادة العسكريّة في العاصمة طرابلس وضواحيها.
فتهديد المرتزق المتفرنس بنقْل المعركة من ليبيا إلى الجزائر، فضلاً عن طبيعته المجانيّة، لا يهدف إلاّ إلى جرّ المؤسّسة العسكريّة إلى ردّ فعل يكون بمثابة جرّها إلى المستنقع اللّيبيّ، بعْد أن فشلت محاولات الأجْهزة الاسْتخباراتيّة الفرنسيّة في اسْتدراج الدّولة الجزائريّة إلى مربّع العنْف بقصد إحداث الفوضى في هذا البلد العزيز، ومن ثمّة السّطو على ثرواته الطّبيعيّة.
ولو كان المجال يتّسع لتفصيل محاولات توريط المستعمر الفرنسي للدولة التّونسيّة، منذ حكومة الباجي قائد السّبسي الأولى، في مخطّطات الاستخبارات الفرنسيّة لإحلال الفوْضى، ومن ثمّة الاستحواذ على ثروات الجزائر الطّبيعيّة، لاستدعى منا ذلك التّفصيل مجلّدات بعيْنها.
فلو اقتصرْنا على بضع السّنوات الخوالي، دون الرّجوع إلى سنوات الجمر في تسعينات القرن الماضي، لقلنا إنّ الإرهاب الجبلي المتمركز على الحدود التّونسيّة الجزائريّة ، وحتّى بعض العمليّات الإرهابيّة العسكريّة الحضريّة، والاغتيالات السّياسية (بما فيها اغتياليْ شهيدي الوطن شكري بلعيد ومحمّد البراهمي)، ومحاولات إشاعة الفوْضى الاجتماعيّة، من خلال إملاءات صندوق النّقد الدّولي التّخريبيّة للنّسيج الاقتصادي الوطني، وسياسات الحكومات العميلة المتعاقبة، المفروضة على رأس هرم الدّولة من قبل سفارات البلدان "الصّديقة" للمسْتعمر الفرنسي (بريطانيا، ألمانيا، الولايات المتّحدة الأمريكية...)، سوى تكريسا لهذه الرّؤى الاستعماريّة الهادفة لوضْع اليد الفرنسيّة على ثروات الأخت الكبيرة الجزائر.
والادهى والأمرّ من كلّ هذا أنّ الطّبقة السّياسيّة التّونسية، متواطئة في هذا القصد مع أذرعتها الإعلامية، لم تنبس ببنت شفة لفضْح هذا التّآمر على أمْن البلدين، باذلة قصارى جهدها للتّعْتيم، بل والتّضليل أيضًا.
فكان لزاما علينا، والحالة على ما وصفْنا، أن ننتظر ساعة ضيق صدر المستعْمر السّابق (الدولة الايطاليّة) للقطْر اللّيبي الشّقيق وصاحب المصالح الكبيرة في هذا البلد الشّقيق، وانزعاجه الشّديد من إصرار الأجهزة الاستخباراتيّة الفرنسيّة على زرع الفتنة بين الفرقاء اللّيبيّين وتحريك بيْدقها العسكري هنالك، الضّابط المتقاعد خليفة حفتر، وذلك من خلال شنّه لهجمة مدمّرة بالوكالة، في عملية عسْكرية محليّة وخاصّة بأحواز العاصمة طرابلس، بما انعكس سلبًا على المصالح الإيطالية، فشجَبت الحكومة الإيطاليّة الدّور السّلبي الذي تقوم به فرنسا في ليبيا، مرجّحة انعدام فرص استقرار الوضع في هذا البلد، طالما أنّ أجهزة المخابرات الفرنسيّة تعمل جاهدة على زعزعة الوضع في هذا القطر، حتّى تبقى الجبهة اللّيبية مشْتعلة ومرشّحة لمزيد التّأجّج على الحدود الجنوبيّة الشّرقية الجزائريّة.
وكذا الشّأن بالنسبة لتونس، فلن ينعم بلدنا بالاستقرار طالما أنّ العدوّ العسكري الفرنسي يخطّط للاستحواذ على ثروات الجزائر الطّبيعيّة. إنّ تغيير شخوص الحكّام في بلدنا أو تنقيح دستور الجمهوريّة أو تغيير وجه النّظام أو حتّى الاستسلام والإذعان للخدعة الإخوانيّة.... كلّ هذه الحلول التّرقيعيّة لن تجدي نفعًا، ولن تنْعَم هذه الأرض الطيّبة بالسّلام طالما أنّ أجهزة دولتنا المختصّة، والدّبلوماسيّة منها على وجه التّدقيق، لم تطرح هذا الملفّ المصيري على رؤوس الملا، بل وعلى المستوى الدّولي أيضًا.... بالتنسيق مع إخواننا الجزائريّين والشّرفاء من أشقّائنا اللّيبيّين، أسْوة بما قام به مؤسّسو الدّولة التّونسيّة النّاشئة، أمثال الزّعيم الحبيب بورقيبة والشّهيد فرحات حشّاد والمناضل المنجي سليم.