ألقت حادثة اختفاء الكاتب السعودي جمال خاشقجي على إثر زيارته للقنصلية السعودية في اسطنبول بضلالها مجددا على ملف الحريات في السعودية وذكّرت العالم بحوادث اختطاف مماثلة نفذتها السعودية ضد معارضين لسياساتها.
وتطرح الحادثة مجددا التساؤلات بخصوص أمن وسلامة الراغبين في الحج اذا كانت قناعاتهم لا تتماشى مع المواقف السعودية الرسمية. وهذه شهادة للتاريخ تبين عبثية بعض السلوكات ورجولة وشهامة البعض داخل المنظومة الفاسدة.
ففي سنة 1994 انتهت صلوحية جواز سفري التونسي وكان يتوجب علي تجديده. وكنت آنذاك عضوا في منظمة العفو الدولية وفي "نقابة متحدون" في جينيف وكان وضعي يحتم علي التنقل وخاصة إلى الدول المجاورة لسويسرا. فاستشرت من أثق بهم وبرأيهم وقررت الذهاب إلى السفارة التونسية في بارن لتجديد الجواز.
وكانت العملية في غاية الصعوبة والتعقيد تحسبا لأي سلوك اجرامي يمكن أن يقدم عليه نظام بن علي الذي كان يحاول ايهام المجتمع الدولي بأنه يتصدى لمجموعات ارهابية خارجة على القانون وهي تسميات تحاول بعض الدول العربية استعارتها لكتم أنفاس شعوبها.
واعتبر البعض من الأصدقاء حينها بأن قراري بالذهاب إلى السفارة هو انتحار وخطة غير مدروسة وهو تقريبا ما نسمعه اليوم من عدد من المحللين بخصوص قضية جمال خاشقجي. وذهبت إلى السفارة في بارن بعد أن أخذت الاحتياطات اللازمة ومنها اجراءات اضطلع بها المحامي الذي أعلم الجهات المختصة في مطاري جينيف وزوريخ وتمت مراسلة الخطوط السويسرية والتونسية لإعلامهم وتحميلهم المسؤولية في صورة الترحيل وتم ابلاغ رابطة حقوق الانسان في جينيف ومنظمة العفو الدولية في لندن والسلطات الأمنية السويسرية وكذلك الاعلام....
ودخلت مقر السفارة وبقيت زوجتي والأخت الفاضلة سعيدة عونلي بالخارج وبقي أخي صالح عونلي يراقب موقف السيارات التابع للسفارة للتصدي لأي محاولة تهريب …. وعندما دخلت أغلق باب السفارة أمام العموم وظللت داخلها لمدة حوالي 3 ساعات وكانت تصلني أصوات تتعالى من داخل المكاتب ووصلني صوت أحدهم يقول " ليس لدي مكتوب رسمي يمنعني من تجديد جوازه و…. وهذا حقه" وآخر يصيح " تتحمل تبعات ذلك لوحدك " وكانت الدقائق تمر علي كالدهر وانتبني شعور بأني وضعت نفسي ومن حولي في ورطة وأن كل الاحتياطات لن تحميني من سلوكات وحوش بشرية أرى بعضها أمامي في السفارة وسبق لأحدهم أن اعتدى علي بالعنف على هامش ندوة.
وبقيت انتظر المصير المحتوم والسيناريوهات المحتملة وأفكر في كيفة عيش زوجتي الحامل ومصير المولود وابنتنا البكر رحمة التي لم تتجاوز الثلاث سنوات وأفكر في وقع ذلك على الوالدين وما الذي سيأخذه مني الجلادون وكيف سأقنعهم بعدم انتمائي لأي فصيل أو جماعة وكيف لي أن أصمد أمام أناس قتلة يتطاير الشرر من أعينهم وهم يعتبرونني خائنا للوطن وللتغيير وكيف لي أن أبرر تواصلي مع المنظمات الحقوقية لكشف رواية النظام وكيف وكيف….
وبينما كنت متأهبا للدفاع عن نفسي أمام أي اعتداء وإن كانت المعركة خاسرة فعلى الأقل لا أمكنهم من نفسي وعرضي بسهولة، إذ بأحدهم يناديني بلطف وأدب شديدين " تفضل أستاذ نأسف تركناك تنتظر الجهاز كان معطلا" لم أصدق الأمر وخرجت ووجدت أخي صالح ماسكا بعصاه التي له فيها مآرب أخرى.
وسارعت بالاتصال بالمحامي وكل المعنيين لأعلمهم "ببطولة ووطنية الرجل الذي لم أقابله وقام بواجبه في تجديد جوازي" علمت بعد مدة بما حصل لذلك الرجل الشريف وتفاديت التواصل معه حماية له واحتراما لمبادئه.
ولعله يكون من بين الذين يقرأون هذه الأسطر فأقول له "شكرا لك وأكثر الله من أمثالك لخدمة أوطاننا الجريحة" وأسأل الله أن يثبت الاستاذ جمال خاشقجي على الحق وأن يعود لبيته وأهله سالما معافى خاصة وأنه رجل خدم بلاده على امتداد سنين طويلة وعانى كثيرا بسبب دفاعه على منظومة الحكم في المملكة وعلى قادة المملكة أن يرحموا عزيز قوم ربما يكون قد أذله البعض عن جهل أو سوء تقدير للعواقب.