يقوم الاقتصاديون بنشر آرائهم بما يمليه عليهم اختصاصهم ولكن كذلك غيرتهم على البلد ومصيره. وبقطع النظر عمّا بذهبون اليه من وجاهة آراء او دون ذلك ومن والانتقادات، فذلك هو دورهم في تعميق الفهم لدى العامة وإنارة القائمين على الشأن العام المؤْتَمنين على خزائن المواطنين ومقدرات البلد، والذين عليهم ان يعتبروها طبيعيةً إِذْ لا احد يمتلك الحقيقة المطلقة.
اطلعتُ على مشروع قانون المالية وقد تكرّمت بنشره "ليدرز" اخيرا، واعتبرته "الاصدار الرسمي" وأردتُ كتابة شيء عنه، فوجدتني أعيد نفسي بالوقوف عند نفس الاستنتاجات :
(1) استحالة تحقيق الاهداف المرسومة ككل عام باعتبار عدم الارتياح للفرضيات المُعتمدة (سعر النفط، نسبة النمو، تركيبة الموارد، العجز العام والخارجي)،
(2) الاستقطاع من المصدر، رفع الدعم والتديان كطريقة مُفضّلة للواردات،
(3) غياب سياسات ماكوراقتصادية مُنسقة وواضحة المعالم،
(4) البناء على نتائج قانون المالية التكميلي للعام المنصرم وليس على القانون الأصلي،
(5) قُصر نطاق التوجهات الاستراتيجية والتي لا تتجاوز في أغلبها الدورة السياسية.
ومن المشاريع ما يرهق، انّك تجد نفسك تتساءل عن مناهج وخلفيات اعتماد 3.9% وليس 4% من العجز العام. فمن الاستحالة بمكان ان تُمكّن افضلُ مناهج التقديرات دقةً بهذه الصفة، إِذْ لا يمكن ان يُعتبر هذا الرقم مُحدَّدًا إراديا فيخرج عن المألوف سيما وأنّ الربط بين الاجراءات المقترحة بالمشروع ونسبة النمو غائبة تماما عن النص: 3.1% نمو وليست 3!.
والجديد هذه السنه ليس الاعلان عن طريقة جديدة في بناء ميزانية الدولة استفادةً من اختلالات ما سبق، ولا عن برمجيات حاسوبية حديثة للتقديرات حيث الحاجة اليها لطالما تمّ الاعلان عنها فيما سبق، ولا آليات تنسيق جديدة بين النقدي والجبائي التي لا تبدو اولويةً مؤسسيةً، انما هو عدم الإفصاح عن التقديرات حول سعر الصرف! وعدم الافصاح هذا سيكون له اثر سلبي إضافي على استقرار سعر الصرف في حد ذاته.
امر هام تغافل عنه واضعو مشروع قانون المالية هو ان 2019 عامٌ انتخابي بامتياز حيث تتعطّل كالعادة بعض الاليات الإنتاجية والمبادرات الخاصة وفق التوجهات الانتخابية وكذلك وفق ما تروجّه وكالات سبر الاّراء السياسية وأيضا على ضوء مدى انحياز مجموعات الضغط لهذا المرشح او لذاك.
وفي هذا الوضع، مع الأمل ان يحقق البلاد اكثر من 3% وهذا ما يتمناه كل مواطن متوازن الارتباط ببلده، إنّ اعتبار مسار النمو قد أخذ منحىً تصاعديا، ما هو الا من قبيل "المضاربة الفكرية" لانّه رهين تحليل سياسي بالأساس وكذلك اقتصادي احصائي دقيق قائم على التفريق بين ما هو ثابت وما هو دوري ومتغيّر في مسار النمو الاقتصادي، يعرفه المختصون ولم يتعرّض له واضعو مشروع قانون المالية" في شرح الاسباب.
اخيرا لا اريد ان اختم هذه الومضات بتوصيات أصبحت تقليدية مثل :
(1) ضرورة بناء القدرات المؤسسية،
(2) تعزيز المراقبة على القطاع الموازي ومحاربة الفساد،
(3) ارساء استراتيجية التداين،
(4) فكّ الارتباط بين هدف البقاء في السلطة وإدارة المال العام،
(5) اغتنام ما تبقى من حماسة بعض الكفاءات الوطنية بتشريكهم في ادارة الانتقال الديموقراطي،… اذ يبدو ان هناك اخلالاتٍ هيكليةً وجب وضعها على محك التبصّر…