جميع المؤشّرات سلبية بفعل الحكومات المتعاقبة : وقف انزلاق الدينار غاية صعبة المنال

Photo

يواصل الدينار التونسي انزلاقه ليبلغ يوم الاثنين 29 أكتوبر 2018 حدود 3,255 دينار مقابل الأورو مسجلا بذلك تراجعا في قيمته بنسبة 63 بالمائة فيما بين 2010 و 2018 ، وحوالي 7.1 بالمائة بين سنتي 2017 و 2018.

وعندما صرح محافظ البنك المركزي في احد المواقع الإلكترونية بتاريخ 18 أكتوبر 2018 بأن أولويته الأولى هي المحافظة على الاحتياطي من العملة الصعبة لتغطية الواردات الأساسية التي يحتاجها الاقتصاد التونسي فهو لم يجانب الحقيقة وتحرك ضمن المربع الذي حدده له القانون عدد 35 لسنة 2016 المؤرخ في 25 أفريل 2016 ويتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي، الذي سحب من البنك صلاحية الحفاظ على استقرار سعر صرف الدينار أمام باقي العملات الأجنبية، ليرمي بالكرة الى السلطة التنفيذية المطالبة حسب تصريحه بتوفير الشروط المسبقة لضمان استقرار سعر صرف الدينار والمتمثلة في الضغط على عجز الميزان التجاري وعجز ميزانية الدولة وهي ذات الشروط حسب تحليله التي تؤمن في السوق النقدية استقرار سعر الصرف على قاعدة قانون العرض والطلب بعيدا عن أي تدخل للبنك المركزي الذي كانت له صلاحية التعديل.

وإذا ما اتبعنا سياق تحليل محافظ البنك المركزي الذي جاء وفيا لقانون النظام الأساسي للبنك المركزي، وفي ظل الوضع الحالي للميزان التجاري وميزانية الدولة، فان كل المؤشرات تقود الى تواصل انزلاق الدينار ليقفز بين عشية وضحاها من 3.255 د الى 5.000 د مقابل الأورو، وذلك على مرأى ومسمع بنك مركزي منضبط لنظامه الأساسي ووفي لاستقلالية مغشوشة.

وعندما يصرح محافظ البنك المركزي بأن أولويته الأولى هي المحافظة على الاحتياطي من العملة الصعبة فذلك يوحي بأن له من الصلاحيات والأدوات والوسائل التي تخول له ممارسة سياسته النقدية في اتجاه المحافظة على الاحتياطي من العملة الصعبة.

إلا أنه سرعان ما تدارك ليرمي بالمسؤولية على عاتق السلطة التنفيذية باعتبارها مسؤولة عن التحكم في التوازنات المالية الخارجية المتعلقة بعجز الميزان التجاري، والداخلية المتعلقة بعجز ميزانية الدولة، وهذا صحيح، ليقنعنا بأن مهمة البنك المركزي هي جمع العملة الصعبة والمحافظة عليها... في حركة ذكية لتبرئة السلطة النقدية من مسؤولية تدهور الدينار وتراجع الاحتياطي من العملة الصعبة ... وضع يهدد البلاد بالإفلاس والعجز عن تسديد ديونها الخارجية بما يعمق سقوطها في براثن صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي.

ولئن تتحمل السلطة التنفيذية مسؤولية ما يمر به الاحتياطي من العملة الصعبة من تقهقر متواصل وبنسق سريع بعد الثورة، فان للسلطة النقدية مسؤولية كبرى في هذا الباب وذلك في الجانب المتعلق بمجلة الصرف الصادرة بمقتضى القانون عدد 76–18 مؤرخ في 21 جانفي 1976 والقانون عدد 94–41 مؤرخ في 7 مارس 1994 يتعلق بالتجارة الخارجية والنصوص التطبيقية، التي تمنح امتيازا للشركات المصدرة وغير المقيمة يتمثل في عدم مطالبتها باسترجاع مداخيل صادراتها الى تونس، وهو ما كلف البلاد خسائر ضخمة منذ تاريخ تطبيق هذه القوانين الى اليوم، اذا علمنا أن كل صادرات قطاعات النسيج والملابس والصناعات الميكانيكية والالكترونية التي تشكل أهم الصادرات الموجهة الى فرنسا وإيطاليا وألمانيا تعمل ضمن نظام التصدير الكلي وهي شركات غير مقيمة.

مسؤولية السلطة التنفيذية في تدهور الاحتياطي من العملة الصعبة واضحة ولا يختلف فيها اثنان. فتفاقم عجز الميزان التجاري، ومن ورائه عجز ميزان المدفوعات، ومن ورائه العجز الجاري الذي يقدر حاجة الاقتصاد من العملة الصعبة والذي تجاوز هذه السنة 10.4 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي بعد أن كان في حدود 4 بالمائة قبل الثورة، لم يجابه بإجراءات صارمة من قبل وزارة التجارة التي خضعت للوبيات التوريد واختارت سياسة النعامة في مواجهة فرنسا التي تقف وراء الاتحاد الأوروبي الذي أصبح يقايض تونس بالقروض بالأورو للتوريد مقابل مسرحية دعم «الانتقال الديمقراطي»، إجراءات أقرها اتفاق الشراكة لسنة 1995 في فصله 35 وأحكام اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة متمثلة في إجراءات الحماية الظرفية.

لا أمل في التحكم في عجز الميزان التجاري

ان الادعاء اليوم بأن التحكم في عجز الميزان التجاري ممكن في ظل غياب إقرار إجراءات الحماية الظرفية، أو القول بأن وزارة التجارة اتخذت إجراءات لإيقاف نزيف التوريد، لا يمكن أن يفرز نتائج حقيقية باعتبار ضعف هذه الحكومة وكل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة في مواجهة الاتحاد الأوروبي وفرنسا تحديدا التي قيدت قرارنا السيادي باتفاقيات ثنائية ظاهرها يوحي بالتعاون الثنائي وباطنها تكريس لاستمرارية الاستعمار تحت أقنعة متعددة تحمل مرة عنوان التعاون ومرة أخرى عنوان الشراكة وسياسة الجوار.

هذه الاتفاقيات التي تعود الى سنة 1969 حكمت على هيكلة صادراتنا بالشلل الى يومنا هذا حيث لم تحاول لا الأنظمة السابقة ولا حكام تونس الجدد التحرر منها والتخلص من قبضتها لتحكم على ميزاننا التجاري بالعجز الهيكلي في ظل تزييف الاحصائيات والمعطيات والمفاهيم، تزييف صمت عنه حكام تونس الجدد في تواطئ مفضوح مع الخارج.

أول هذه الاتفاقيات تعود الى 31 مارس 1969 وتم توقيعها مع المجموعة الأوروبية والتي بمقتضاها تم ضبط المنتوجات الفلاحية التي يمكن لتونس تصديرها وبالتحديد زيت الزيتون والقوارص، وهي نفس المنتوجات التي تصدرها تونس الى اليوم الى الاتحاد الأوروبي.

أما الاتفاقية الثانية فتعود الى 25 أفريل 1976 وهي اتفاقية تجارية تفاضلية كما وصفها الجانب الأوروبي باعتبارها منحت تونس إمكانية النفاذ الى السوق الأوروبية في إطار نظام الحصص على بعض المنتوجات وفي مقدمتها النسيج والملابس.

أما الاتفاقية الثالثة فهي اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الاوروبي لسنة 1995 التي استمرت في تكريس تبعية مبادلاتنا التجارية مع الاتحاد الأوروبي لاعتبارات يصفها السياسيون «بالتاريخية» تاريخ يعود الى عهد الاستعمار.

وفي سابقة هي الأولى من نوعها ودون الرجوع الى مجلس نواب الشعب، تعهد رئيس الحكومة يوسف الشاهد من بروكسال بالتوقيع عل اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق مع الاتحاد الأوروبي في سنة 2019، خطوة عملاقة نحو الحفاظ على مصالحهم في السوق التونسية.

هذه التبعية تعمقت بأطر قانونية وتشريعية على غرار قانون أفريل 1972 ومجلة التشجيع على الاستثمار لسنة 1993، ومجلة الصرف في سنة 1976 وهي قوانين أقرت صيغة المناولة ونظام التصدير الكلي.
هذه القوانين فتحت المجال أمام الشركات الأوروبية وخاصة الفرنسية والإيطالية والألمانية للانتصاب في تونس والاستفادة من الامتيازات المالية والجبائية وفي مجال الصرف والتي بمقتضاها تنتج في إطار المناولة وتصدر دون أن تسترجع مداخيل التصدير واقع يعرّي الأسباب الحقيقية التي تقف وراء عجز الميزان التجاري وعجز ميزان المدفوعات وتقهقر الاحتياطي من العملة الصعبة وانزلاق الدينار.

لا أمل في التحكم في عجز الميزانية

محافظ البنك المركزي اعتبر أنه من شروط ضمان استقرار سعر صرف الدينار، الى جانب شرط الضغط على عجز الميزان التجاري بما يخفف من نزيف التوريد والطلب على العملة الصعبة في ظل ضعف التصدير، هو الضغط على عجز ميزانية الدولة في اتجاه التقليص من اللجوء الى الاقتراض الخارجي والتعويل أكثر على الموارد المالية الذاتية.

فقد اتضح بعد الثورة أن جميع الحكومات المتعاقبة بما في ذلك حكومة الشاهد اختارت اللجوء الى الاقتراض الخارجي لتمويل ميزانية الدولة في ظل شح الموارد الذاتية وعجزها عن إعادة الروح للنشاط الاقتصادي واخراجه من حالة الركود التضخمي القاتلة. فهذه الحكومات لم تفلح أو أنها لم تطرح على نفسها كسر الحلقة المفرغة المتمثلة في انزلاق الدينار من جهة، والذي يؤدي الى ارتفاع الحاجة الى العملة الصعبة لتسديد الدين الخارجي من جهة ثانية، والذي يؤدي كذلك الى ارتفاع خدمة الدين المبوّب في ميزانية الدولة من جهة ثالثة، والتي يجب توفيرها في إطار معادلة تؤدي الى تعميق عجز ميزانية الدولة باعتبار شح موارد الدولة الذاتية، وتتكرر العملية من سنة الى أخرى عند اعداد مشروعي ميزانية الدولة وقانون المالية.

وفي ظل هذا الوضع المأساوي لا ننتظر من حكومة الشاهد قلب المعادلة أو كسرها في اتجاه توفير موارد ذاتية، وذلك في ظل تضخم الاقتصاد الموازي والتهرب الجبائي والركود الاقتصادي الذي تسبب فيه التوريد المنظم والعشوائي الى جانب عوامل أخرى، بما يعني بأن الطلب على العملة الصعبة سيزداد لتسديد الديون الخارجية، وبما يفيد أيضا بمزيد انزلاق الدينار الذي لن يجد من ينقذه. ففي إطار مشروع ميزانية الدولة لسنة 2019 تم تقدير حاجياتنا من الاقتراض الخارجي في حدود 10 مليار دينار في حين قدرت اعتمادات خدمة الدين في حدود 9.3 مليار دينار.

تصريح محافظ البنك المركزي بتاريخ 18 أكتوبر 2018 كشف عن مستقبل الدينار التونسي، مستقبل يهدد البلاد بعجز تسديد ديونها وبتواصل عجز ميزانية الدولة من جهة، وبتدهور الاحتياطي من العملة الصعبة ومزيد تفاقم عجز الميزان التجاري في غياب صادرات تونسية وطنية لشركات تنشط في إطار النظام العام ومقيمة، وفي ظل صمت ممنهج تجاه مجلة الصرف وإقرار قانون استثمار جديد يشرّع لتهريب الأموال من جهة ثانية. كلها مؤشرات تهدد بمزيد تفقير الشعب وتركيعه، وإفلاس المؤسسات، وتفاقم البطالة، وتعميق التبعية للمقرضين الدوليين والأوروبيين.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات