في الستينيات وفي قريتنا بالذات, لم يكن يوجد جزّار ولا بائع خضروات ولا دكان مرطبات ولا طبيب ولا صيدلية ولا مركز حرس ولا بلدية ولا مغازات لبيع الآلات الكهربائية المنزلية. في قريتنا بشر وفراشات وقطط وماعز وحمير وورد ونخل وزيتون ورمان وهواء نقي وشمس مطهِّرة وعُمدة اسمه الشيخ ابراهيم. عُمدةٌ، مهمته التوفيق بين الناس وستر عوراتهم والذود عن أعراضهم وليس الوشاية بهم لدى السلطة البعيدة في مركز المعتمدية بڤبلي (15كلم). في قريتنا, بيوت آمنة، بيوت مفتوحة على الدوام وقلوب صافية لا تعرف العنصرية ولا التكبّر, ترحّب بالجار والضيف والبعيد والقريب.
نساؤنا نساء، ورجالنا رجال، جميعهم يعمل جنبا إلى جنب في الحقل والبيت دون تفرقة في الجنس والواجبات. يكفل الجارُ أيتامَ جاره ويعوّض أباهم في الحنان والمسؤولية، والجارة تضاهي الأم في الرقة والحب. أطفالنا يحترمون الكبير وشيوخنا يربّون الصغير. قريتُنا يا ناس، قريةٌ من أجمل القُرَى وأروعها.
كلمة جزار كلمة مكروهة في الأخلاقيات البيولوجية وكلمة حرس مكروهة في الأخلاقيات الريفية لاقتران الأولى بذبح الحيوانات والثانية بالسلطة المفروضة من الخارج. كل عائلة تُنتِج حاجتَها الغذائية أو تأخذها من الجار إعارة أو هِبة. لم نكن نربي خرفانا ولا أبقارا لأنها تأكل كثيرا وتشرب كثيرا (إنتاج كيلو لحم بقر يحتاج تقريبا إلى 100.000 لتر من الماء وفي الصحراء يعز الماء) ، بل نربّي ماعزا ودجاجا يرعى في حرية من الصباح إلى المساء ويغذِّي نفسَه بنفسِه مثل النباتات الخضراء تقريبا.
لا توجد في منازلنا حنفيات ، فلم نكن نُبذِّر الماءَ ولا نستهلك منه إلا القليل الضروري. يعتمد نظامنا الغذائي على النباتات فنحن تقريبا نباتيون، لا نذبح العنزة إلا في عيد الأضحى للضرورة الدينية أو نرحمها عندما تكون مريضة.
نشرب حليب العنزة, ونأكل بيض الدجاجة, ونستعمل فضلاتهم سمادا عضوياّ فلماذا نقتلهم يا ترى؟ لا نعتدي على حيواناتنا الأليفة بالعنف وإلا لماذا نسميها أليفة؟ أليفة لأنها سلِمت من غدرنا وجشعنا ونهمنا. نأكل الفرعَ (الحليب والبيض) ونحافظ على الأصل (الكائن الحيواني الحي). لا نستهلك السكرَ الأبيض ولا الحليب الأبيض إلا في الشاي.
عَطّارُنا لا يبيع الياغورط ولا الشكلاطة ولا البسكويت ولا الجبن, أراحنا الله من الأغذية المصنعة والملوَّنة والمسرطِنة. وجبتنا بسيطة جدا وبيولوجية مائة بالمائة لأننا لا نستعمل في إنتاجها سمادا كيميائيا ولا مبيدات أعشاب أو حشرات. نكتفي بما تنتجه الطبيعة ونقنع بالقليل لسد الرمق. في عيد الفطر لا نصنع حلويات لاقتناعنا التقليدي أنها ليست غذاءً بل سموما عسيرة الهضم تُنهِك "البنكرياس" والقلب والشرايين.
نزرع الحبوب في السهول فيسقيها مفرّجُ الكروب, نحصدها بالسواعد والمناجل, نفصل حبات القمح عن سنابلها بطريقة تقليدية يدوية ونطحنها بِرِحِىٍّ حجرية ونغربلها ثم نصنفها كسكسي وبركوكش. مطبخُنا كان فقيرًا جدًّا لكنه صحّيٌّ جدًّا, لم نكن نعرف طبخ أطباق اللوبيا ولا الجلبانة ولا الملوخية ولا البطاطا الزعراء ولا الطاجين ولا الأرز بالفواكه ولا السمك, لا مقلي ولا مشوي. وجبتُنا مغذِّيةٌ لكنها ليست لذيذةً.
اللذةُ في الطعامْ يا سادتي يا كرامْ، دَوْمًا تصحبها الأمراض: خذ مثلا الأكل المقلي أو الدسم, يُعَدُّ من أشهى الأطعمة لكنه يدمر القلب والشرايين, أطباقُ الحلويات المتنوعة تَنخُر الأسنانَ وتُرهِق "البنكرياس" وتُمهِّد لداء السكري، والمصبّرات المملَّحة ترفع في ضغط الدم. نطبخ ونأكل في أواني مصنّعة يدويا من الطين خالية من النحاس والألومونيوم المسرطنَين . نغسل هذه الأواني بالطين الأخضر أو الصابون الأخضر الطبيعي.
لا نستهلك من الطاقة إلا القليل مما يطرحه نبات النخيل من خشب وجريد جاف. النخلة وما أدراك ما النخلة في تراثنا ووجداننا, مصدرُ رزقنا وسببُ سعادتنا, نسقيها ونمدّها بالسماد العضوي فقط، لا نغشّها ولا نسمّمها بالكيميائيات. نرعاها سنوات بحب وحنان حتى تثمر على مهلها "رطبا جنيا"، نأكل منه القليل ونبيع الكثير وما زاد عن حاجتنا نخزِّنه في أوعية خزفية لنستل روحه في لطف وأدب على مدى الفصول الثلاثة الباقية.
لا تمثل المعزة في غذائنا الشيء الكثير ومع ذلك نكرِّمها ونرحِّب بها تسكن معنا في نفس المنزل ونعاملها دون مبالغة كفرد من أفراد العائلة. كانت أمي تستيقظ في أنصاف الليالي عند صياح معزتها لتراقبها وتقدّم لها الماء والغذاء. كان الغائب منا يسأل في رسائله عن العائلة وعن المعزات. عندما تلد المعزة, نحتفل بولادتها ونقدّم لها أكبر الرعاية ولا نسرق حليبها المتدفق بل نتركه لابنها. ابنها الجَدْيُ أو العَناڤ، يعني الذكر أو الأنثى، الصغيرُ الذي يملأ ساحة البيت فرحا وبهجة بقفزاته الرشيقة كالفراشة، هذه الصورة الرقيقة ما زالت عالقة بمخيلتي بعد خمسين سنة وكلما تذكرتها إلا وغمرتني سعادةٌ منعشةٌ لا مثيلَ لها.
في الثمانينيات, جاءنا التخلّفُ متنكرا في زِيِّ التمدّنِ المستورَدِ فأهلك الحبَّ والألفةَ, أصبحت بيوتُنا من حجر أصم مثل قلوبنا. جاءنا الحرسُ الوطني فأصبح الأخ يشتكي أخاه والجارُ جارَه لأتفه الأسباب فانقرض التسامح وسادت الوشاية. أغلقنا بيوتنا بالمفاتيح وكَثُرَ السرّاق. تخلى الكبير عن مسؤولياته التربوية فلم يعد يحترمه الصغير. تفشّت فينا العنصرية والقبلية وتهافتنا على السلطة الزائفة.
في التسعينيات, جاءنا الخير الكبير والنخل الكثير والفضائيات العشوائية وأصبح لنا مليونيرات و"ديماكسات". أتمنى من كل قلبي أن لا يقتصر الغِنَى على الجيوب فقط ويشملُ القلوبَ والنفوسَ، ونتمسك أكثر بعاداتنا التقليدية الجيدة ولا نأخذ من غول الحضارة الغربية إلا ما يفيدُنا في نهضتِنا وصحّتِنا وتربيتِنا وثقافتِنا.
- جمنة: قرية جميلة في الجنوب الغربي التونسي على أبواب الصحراء الرملية.
- ديماكس: نوع من السيارات اليابانية المستعملة في النقل الفلاحي والتجاري والصناعي.
- طاجين: أكلة تونسية دسمة جدا وهي خليط مطبوخ متماسك من البيض والجبن واللحم.
- البنكرياس: غُدَّةٌ في الجسم تُنتِج الأنسولين وهو هرمون يُخفِّضُ نسبة السكر في الدم.
إمضائي
أجتهدُ فإذا أصبتُ فلي الأجرُ الموعودُ، وإذا أخطأتُ فلي بعضُه!
و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
Aimer, c`est agir. Victor Hugo