ضبط المرسوم عدد 116 لسنة 2011 المتعلق بحرية الإعلام السمعي البصري و بإحداث هيئة عليا مستقلة للإعلام السمعي البصري جملة من المبادئ التي ينضبط لها الإعلام التونسي بنوعيه العام و الخاص ملخصة في احترام حرية الرأي والمعتقد و حرمة الحياة الخاصة و غيرها من العناوين الواسعة التي تنطوي على ضوابط لحرية الإعلام في غياتها نبيلة ...
و لكن تطبيقها لم يكن على درجة من المرونة بما يجعل جهاز الرقابة على الإعلام يوفق في معادلة صعبة مرماها أن لا تنال القيود من جوهر حرية الإعلام كمكسب اتت بيه الثورة و نضالات أجيال متعاقبة في سبيل الكلمة الحرة و في الآن ذاته لا تنزلق نحو مستنقع لا أخلاقي ينتهك حرمات الناس و لا يتحول الى سوق يخضع للأقوى من حيث الثقل المالي ..
الإعلام التونسي و مرورا بكل المراحل منذ إحداثه لم يرتقي بعد الى مرتبة المهنية و الموضوعية ، هو إعلام مصطف يتغذى من خضوعه لقوى معينة و ينحاز لها و لا يعرف الحيادية متى يجب ان يكون محايدا و لا ينحاز لقضايا تستحق الإنحياز …
قبل الثورة ، و منذ نشأته كان دائما بمثابة لسان السلطة الذي تخاطب به الشعب الخطاب الذي تراه هي ملائما و مناسبا من وجهة نظرها ، حتى و ان جانب الحقيقة و كان مفرغا من كل منطق ، هو إعلام تابع للسلطة التنفيذية ، فما يميز فترات الإستبداد هو تغول السلطة التنفيذية و نفوذها المطلق على بقية السلط ، فلا مجال بالتالي لسلطة رابعة و تجدر الإشارة الى انّ وجود وسائل إعلام في خضم نظام استبدادي لا يعني بالضرورة وجود سلطة رابعة إذ تكون في هذه الحالة مسلوبة الإرادة و الحرية بما يصيّرها كذلك بوق دعاية و مصلحة من مصالح الجهاز الحكومي ..
وزارة الإعلام في تونس أحدثت لتعبر عن هذا الإتجاه في عهد الدكتاتور الأول الحبيب بورقيبة تحديدا في ماي 1956 و اول من تقلدها هو البشير المصمودي و كان دور الإعلام التقليدي في تلك الحقبة هو صورة الرئيس التي يجب ان تكون راسخة في ذهن كل تونسي بشكلها المرغوب ، كزعيم أزلي و تواصلت السياسة نفسها في التعاطي مع الإعلام من قبل وزارة الإعلام و التي سميت بوزارة الإتصال و قد تداول عليها العديد من الشخصيات المعروفة أمثال الطاهر بلخوجة و فؤاد المبزع و قبله الحبيب بولعراس الى مرحلة بن علي و الذي اتى بالوزير عبد الوهاب عبد الله بعد انقلاب 1987 و هذا الأخير لم يمسك بمقاليد الوزارة طويلا و لكن يعتبره فاعلون على أنّه اكثر الشخصيات التي وضعت أعمدة الإعلام النوفمبري ...
في كل مرحلة الهدف كان بالأساس هو خدمة المنظومة الحاكمة بتسويق محاسنها و طمس حقائقها الغير مرغوبة .. و الخط التحريري لكل وسيلة إعلام مقيد بضوابط المنظومة الحاكمة و مزاجها . أحداث الثورة التونسية في 2011 مزقت نمط الإرتباط العضوي و الموضوعي بين الإعلام و المنظومة الحاكمة و وقع حل وزارة الإعلام و بذلك انقطعت كل الروابط بين الدولة و مختلف وسائل الإعلام حتى انها انساقت الى خطاب لا يحترم الدولة في بعض المحطات ..
ليتنزل دور الهايكا لاحقا بمقتضى مرسوم 116 المؤرخ في 2 نوفمبر 2011 و يحدث هيئة تعديلية تتكون من تسعة أعضاء بإختلاف الجهات التي تتولى تسميتها يمكن إعتبارها نسبيا مستقلة .. و هي بمثابة النقلة النوعية قياسا بتجاوزها للرقابة المسبقة و اللامشروطة التي لا تتقيد بالقوانين و لا سقف أقصى يضبطها .
لتجد الهيئة نفسها في مواجهة مشهد تخطى كل الضوابط و القيم حتى الأخلاقية و رغم تدخلاتها المحتشمة من حين الى آخر في محاولة لتعديل الإتجاه الذي توخته الغالبية الساحقة من الصحف المكتوبة و وسائل الاعلام المسموعة و المرئية فهي دون جدوى . المشهد كما يبدو سيطر عليه منطق الغاية تبرر الوسيلة ، فالربح يبرر في نظر الإعلام التونسي نوع الإنتاج المحظور ليفرز في النهاية انتاج إجتماعي أقل ما يقال عنه كارثي ، بعض البرامج على سبيل الذكر اقتحمت الحياة الخاصة للناس و قدمتها كمحتوى لبرامجها ..
و ليس الإنتاج السياسي و المحتوى السياسي ببعيد عن السياق ذاته . و الأمر لا يتعلق بإستثناءات تطرأ بشكل إستثنائي من حين الى آخر يستدعي التدخل العلاجي من قبل الهيئة بل بظاهرة عامة و ميزة لصيقة بالمشهد الإعلامي يبدو جليا أنها ستواصل مرافقته و ملازمته في المستقبل ،. على أنّه تجدر الإشارة إلى تراجع دور وسائل الإعلام التقليدية بمختلف أنواعها مقارنة بزحف الشبكات الرقمية التي تطرح أيضا إشكاليات عديدة متشعبة و شائكة ذات صلة بمراقبتها .